متى ينشق العرب عن الماضي

متى ينتمون إلى العصر!
السبت 2018/09/01
لوحة: فادي يازجي

إن أهم انشقاق عرفته التجربة الروحية المسيحية كان في ظل الإمبراطورية البيزنطية وهو يسمى أيضا بانشقاق الشمال عن الجنوب، والذي حدث أثناء انعقاد المجلس المسكوني العاشر بأمر من الإمبراطور البيزنطي مارقيان سنة 451 م في مدينة خلقيدونيا التركية. وصف في زمنه بالتجمع المناهض لعقيدة النسطوريين، ونتج عنه ظهور كنائس (القبطية، الأرمينية والسريانية) تؤمن بثنائية السيد يسوع المسيح وتميز فيه الروحي عن البشري، وأخرى ( الرومانية والبيزنطية ) توحد بين الإلهي والبشري لدى نبي الله. إلى جانب اختلافات أخرى ترتبط ببعض الشؤون الترتيبية للنشاط الكنسي والروحي لرجال الدين. هذا الانشقاق لم يكن سلميا كما قد يتوهم البعض بل أعقبته أحداث ونزاعات دامية في مناطق عديدة من المشرق، بسبب تبني السلطات السياسية لأحد المواقف في مقابل رفضها لاختيارات أخرى.

في سنة 1054 م كان الانشقاق العظيم الثاني، إذ انفصلت كنائس الشرق الأرثوذوكسية ذات الثقافة الإغريقية عن كنائس الغرب الكاثوليكية ذات الثقافة اللاتينية، أي انفصال البطريركية الغربية عن بطريركية القسطنطينية، بعد سلسلة من اللقاءات للمجالس المسكونية المتتالية تاريخيا. لم تكن – بالضرورة – كل أسباب الانشقاق خلافات تيولوجية، بل ربما كان للعوامل السياسية التي تعود إلى فترات زمنية سابقة متمثلة في رغبة الكنائس البيزنطية فرض وصايتها على كنائس الشرق لها دورها المهم أيضا.

كما لا يخفى على المهتمين بالتاريخ تزامن هذا الوضع في الكنيسة مع بداية الاستعداد للحروب الصليبية الأولى. من أهم مواضيع الخلاف كان سؤالا لاهوتيا تعلق بطبيعة الروح القدس في التثليث، هل هو نابع من الله أم من الابن، إلى جانب مواضيع أخرى، لا تقل أهمية، تم تداولها مثل تبتل القساوسة والرهبان وفرض اللحية وحضور الصور والتماثيل أثناء القدّاس.

في سنة 1520 م كان الانشقاق العظيم الثالث، وهاته المرة لم يكن بين كنائس متنازعة بين الشرق والغرب ولكنه انفجار داخل الكنيسة الكاثوليكية ذاتها. إنها ثورة مارتن لوثر المعروف بمقاومته الشرسة لتجارة صكوك الغفران وسلطة البابا المفرطة. أراد القساوسة أن يجعلوا البابا خليفة للسيد المسيح رغم غياب النصوص المؤيدة لمثل هذا التوجه، فطالب لوثر بتجريد البابا من سلطة تفسير النصوص المقدسة لتصبح كتابا مشاعا بين الناس، ودعا إلى اعتبار الكتاب المقدس المرجع الوحيد للإيمان وليس مباركة البابا هي المخلّص للبشرية كما يشاع من قبل الكنيسة الكاثوليكية. أما بخصوص الدعوة إلى انعقاد المجلس المسكوني فإنه في نظر مارتن لوثر لا يتم بأمر من البابا – كما يحدث- بل هو من صلاحيات القساوسة. كثيرة– تاريخيا– هي الانشقاقات التي عرفتها التجربة الروحية المسيحية، ونحن أشرنا هنا إلى أبرزها للضرورة المنهجية.

لم يكن الانشقاق بين الكنائس خاليا من صدامات واتهامات متبادلة بالهرطقة والكفر. كما لم يتم قبول هذه المتغيرات التاريخية كتجارب روحية تطالب بحقها في الشرعية إلا بعد تضحيات جسيمة وصراعات دامية انتهت بحلول عصر النهضة الأوروبية واسترداد الدولة لسلطتها على الديني بعد استرجاعه سياسيا من قبضة الإكليروس والمجموعات الدينية. تعتبر تلك الصراعات من العوامل التاريخية الممهدة لميلاد مجتمع المواطنة والدولة الحديثة، في مقابل زوال مجتمع الرهبنة ودولة القرون الوسطى.

ولكن هل الانشقاق داخل المؤسسات الدينية خصوصية ميزت المؤسسة الكنسية دون غيرها من المؤسسات الدينية لدى الديانات التوحيدية الثلاث، أم أنه وضع تاريخي عرفته كل الديانات؟. إن العامل المشترك بين الرسالات التوحيدية الثلاث هو بدايتها موحدة لكل الأفراد من الذين عايشوا التجربة عند ميلادها، ثم لا تلبث أن تظهر عقائد ومذاهب متناحرة تطالب كلها بحقها في الشرعية، ويتزامن ذلك دوما، مع إلغاء واستبعاد متبادل في ما بينها.

الانشقاق الأول

في مقابل القراءة العلمية لماضي التجربة الدينية – لدى الغرب- من طرف مؤسسات أكاديمية مختصة، نجد المؤرخ والمتدين العربي يحدثنا بتحفظ كبير عن تاريخ الفتن والانقسامات الداخلية التي ميزت المراحل الأولى من التاريخ المؤسس للإمبراطورية الإسلامية في القرون الوسطى، وبحذر شديد توصف الخلافات التي دارت بين المسلمين عبر التاريخ، حول مسائل عقدية وسياسية.

البداية في تقديرنا كانت مع سلطة الأمويين في دمشق ابتداء من سنة 661 م، عندما صارت الخلافة منصبا سياسيا مستقلا عن مقام المتدين وحياة الزهد، تتنازع لأجله القوى العشائرية. لقد صار الحديث عن أمور السلطة غير مباح للمسلمين ومن الأسئلة التابو التي يمنع على العامة تداولها بالنقد مثلما كان الشأن زمن الخلافة الراشدة.

الحاكم – في تصور الأمويين- ليس خليفة لرسول الله، بل حاكما بأمر الله يقرر ما يشاء ويفصل في كل القضايا وسلطته تعلو قرار الجماهير. ليس مطلوبا منه اعتماد السيرة النبوية أو الفقه مرجعا في تقرير ما ينبغي اختياره، كذلك لم تصبح السلطة اختيارا بل توريثا. لقد قطعت الصلة مع جملة من التصورات ميزت الخلافة الراشدة في الثلاثين سنة الماضية. الله هو من اختار الخليفة وعلى الجماهير الإيمان بالقدر الإلهي والعصيان أو التمرد هو كفر وجحود.

لقد تعاملت السلطة في دمشق مع حركة الطالبيين والخوارج على أنها موجات من الخارجين عن الإجماع القائم على الاختيار الإلهي وكفر بقضاء الله وقدره، وجب محاربتها والتنكيل بأتباعها. إن سنة 661 م هي فترة حاسمة تميزت بميلاد إسلام جديد، مختلف جذريا عن الإسلام المحمدي والإسلام الراشدي.

الانشقاق الثاني

Thumbnail

لم يتغير الوضع كثيرا في زمن العباسيين بداية من منتصف القرن الثامن للميلاد، بل استمر اعتبار الحكم منصبا مقدسا يمنع مناقشته أو عصيان الحاكم، يختار الله من يمثله ومن يمتلك المواصفات التي تتناسب وشريعة نبيه ويسهر على تنفيذها ومحاربة المارقين. في المقابل هي فترة تاريخية مهمة عرفت بظهور المذاهب الفقهية، وجهود جمع الحديث النبوي والآراء الكلامية والاشتغال بكتابة السيرة النبوية والمدونات الضخمة في مجالات معرفية عديدة. إذن الانشقاق التاريخي الأول كان مع الاختيار السياسي وما تبعه من تبني لمقولات لاهوتية تضاف إلى المنظومة المعرفية التي هي في بداية التشكل.

الانشقاق الثاني أيضا بدا سياسيا ليصير لاهوتيا ثم عقائديا، حدث ذلك مع أنصار آل البيت ليتم على يد الإمام جعفر الصادق تأسيس المذهب الشيعي ( نظرية الإمامة) في منتصف القرن الثامن للميلاد – أيضا – ويتوقف نسبيا مع موت الإمام العسكري، إذ تم خلال هاته الفترة تبني مقولات جديدة تقول بولاية الفقيه في انتظار ظهور الإمام المهدي.

إن تقرير ما يتناسب والشريعة المحمدية ليس من اختصاص الخليفة الأموي والعباسي، بل هو شأن ميز الله به الأئمة من آل البيت. نفس الإرادة الإلهية التي اختارت محمدا نبيا لهاته الأمة اختارت بعده الأئمة ليفسروا الشريعة ويسهروا على تطبيقها وشرحها. “الإمام“ منصب مقدس له من القدرات ما ليس لغيره من البشر. بوجوده تستمر الأمة وتضمن بقاءها موحدة آمنة. إنها فترة تميزت أيضا بجهود كبيرة في مجال اللاهوت وتدوين الحديث النبوي والسيرة والفقه، وكله وفق العقيدة الشيعية. بداية من هذه الحقبة نجد القاموس الديني يعرف ميلاد العشرات من المفاهيم وكلها في علاقة مع المتغير التاريخي (العصمة، الولاية، الإمام المخفي، إلى جانب الكثير من طقوس العبادة..).

الإمامة ليست فقط اختيارا فقهيا وسياسيا جاء لتقويض سلطة الأمويين والعباسيين، بل هي نتاج تاريخي لانغلاق السلطة أمام الواقع المتعدد عقائديا وإثنيا وتعصبها إلى الاختيار القبلي، مما أنتج خطابات متعصبة ومنغلقة عرفت بها كل الفرق.

الإنشقاق الثالث

الانشقاق الثالث الكبير الذي سيترك أثره البالغ على العقل وكل المنظومة العقائدية وإلى غاية عصرنا، كان باختيار محسوب على السلطة في مواجهة تحديات كثيرة. لقد بدا زمن المتوكل الخليفة العباسي العاشر أي في حدود منتصف القرن التاسع للميلاد ليستمر إلى غاية القرن الثاني عشر للميلاد. تم خلال هاته الفترة تقعيد الأسس العقدية للمذهب السني بتبني النظرية الأشعرية في اللاهوت وترسيم الأنساق الفكرية التي انتقتها السلطة بالاعتماد على مرجعية مدروسة في فهم النصوص وتأويلها، نقيضا لتصورات المذهب الشيعي والمعتزلي والخارجي التي كان ينظر إليها على أنها كيانات تهدد وجود مؤسسة الخلافة.

إنها مرحلة تبني رؤية معينة للدين والشريعة المحمدية وترسيم المعنى الواجب إتباعه في سبيل فهم الحقيقة، بالاعتماد على تصور منتقى في علم الكلام وإعطاء الشرعية لأربعة مذاهب فقهية، وتبني أحاديث البخاري ومسلم. في مقابل ذلك عمل الشيعة تدرجا في الزمن على بناء المذهب الشيعي بالاعتماد على جهود ابن بابويه القمي في اللاهوت ومدونات الحديث للإمام الكليني.

إذا كان التعدد الكنسي – في عصرنا- يعد في الغرب أمرا طبيعيا، يعبر بطريقة ما عن تعدد القناعات والانتماءات الفكرية ذات الأصول التاريخية، فإنه في المقابل لا يزال التعدد المذهبي– إسلاميا- أمرا منبوذا والقرار بشأنه غير قابل للمراجعة لدى الهيئات الدينية الأكثر اعتدالا. فكل طرف متمسك بتصوراته منغلق على الآخر، الكل مقتنع بأن الإسلام واحد، وليس تجارب بشرية متعددة. المؤسسة السنية كما المؤسسة الشيعية والإباضية، تزداد انغلاقا على ذاتها. الجميع يتصور العالم وفق مقولاته الخاصة ليضفي عليها صفة المطلق ويجردها من طابعها التاريخي.

بحثاُ عن الانفتاح

إذا كانت غاية السلطة في القرون الوسطى الإسلامية والمسيحية هي صناعة وتبني “عقيدة وانساق فكرية مغلقة” تجبر الرعية على الانتساب إليها مقابل وصف مجمل تيارات المعارضة بالضلال والتيه. فإنه من المطلوب إسلاميا – اليوم – تبني “عقيدة منفتحة” تصنعها الجماهير الواسعة لتعبّر فعليا عن تعددها المذهبي والفكري، لتحدث بذلك الانشقاق الذي يتطلبه واقعنا العربي والإسلامي المعاصر.

التعصب المذهبي هو من أهم ميزات التجربة الروحية للإنسان في القرون الوسطى، فإذا كان غيرنا قد تنبه إلى مخاطر استمراره، فإنه إسلاميا، لا يزال قائما ويحظى بوصاية المؤسسات السياسية الوطنية والإقليمية، يحدث ذلك- دائما- في وقت يتطلب صناعة مواطن الغد.

يطلب اليوم وبشكل مستعجل، التفكير جديا في صنع الدولة على النموذج الأوروبي الناجح، بتشريعات حديثة تلغي الفوارق الموروثة، من أجل تجاوز نظريات الكنتونات التي جاء بها أنصار الإسلام السياسي، وتجاوز الخلل الصارخ الذي يميز نماذج الدولة الوطنية أو دول الريع النفطي. يجب أن يعي المواطن العربي المعاني الصحيحة لجملة من المفاهيم المتداولة: “الديمقراطية “، “التعددية“، “الدولة“، “الدستور والتشريع″، “التربية والتعليم”..يصعب كثيرا تقدير الفائدة من بقاء الوضع كما كان عليه منذ قرون، والخسارة تتضاعف تصاعديا في الزمن. من الضحية ومن المستفيد؟ الكل ضحية ولا أحد سيستفيد. من المهم أن نتعلم قراءة واقعنا بعيدا عن الرؤية الأيديولوجية التي تنتمي إلى القرون الوسطى، ومن الضروري أن نؤمن بأننا لسنا نسخا عن بعضنا البعض، بل نحن أبناء عصرنا.

 من المؤسف أن يفكر أبناء هذا الجيل في منطقتنا العربية والإسلامية بنفس المقولات المذهبية والأحكام التي اعتمدها الناس منذ زمن بعيد في معالجة إشكالات الرأي والتعبير. فإذا كان التعدد في الرأي جناية في القرون الوسطى، فإن الجريمة في عصرنا هي تكميم الأفواه.

التعددية في الرأي أو في الانتماء المذهبي ليست عيبا، بل العيب أن نعجز عن بناء إطار تشريعي يحمي بعضها من بعض، بالاعتماد على مقولات العقل الحديث. من دون شك فإن الدولة الوطنية لم تصنع هذا الواقع، ولكنها تتحمل المسؤولية في تركه يتعفن من خلال انغماسها الكلي في الصراع لأجل ضمان بعض المكاسب، في وقت يطلب منها اعتماد معايير حديثة في ترتيبه. إذا كانت القرون الوسطى هي الفضاء الذي أسس المذاهب الدينية، فإن عصرنا هو الفضاء الذي أسس القانون المدني والعقل الحر.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.