مرثية الصديق

الثلاثاء 2022/02/01
لوحة: فؤاد حمدي

سَأُحَدّْثُكُمْ عن بشير: نعم، هو البُجْ، وهو عندي وعند العارفين، الحُبْ. وهو أكثرُ من ذلك: صداقة الحبّ والحياة والحريّة، في بلاد صار فيها كلّ شيء غربة وجفاء وطبعا، موت. وكم نعيشُ في زمن الموت، والموت أقربُ إلى الجميع من روح الحياة: الحبّ. لن نُشفى ولم نُشف من حبّ تونس، ولا من حبّ بشير بن عبد القادر مرجان، المشهور بـ”البُجْ”، لن نُشفى من حُبِّ من نُحِبُّ، ولأنّنا نُحبُّ البلاد كما لا يُحبُّ البلادَ أحدْ، لن نُشْفَى أبدًا وكيف الشّفاءُ وشاربُ النّبيذ وقارئ الشّعر وعاشق الحياة اليوم في قبر؟

هل أُبالغ؟ لا، تعالوا معي لتعرفوا من هو حبيبي البُجْ.

كان في نظري، عنوانا للحرّية الّتي لم يعشها ولن يعيشها واحدا منّا، فكلّنا نسعى إلى التحرّر والبعضُ منّا يعيش ويناضل وأحيانا يقاوم من أجل الحريّة، لكنّ الوحيد بيننا الّذي عاش حرّا وتوفّي حرّا هو بشير البُجْ، فهو الوحيد الّذي قطع مع الأعراف والنّواميس الاجتماعية والفكريّة والسّياسيّة ممّا جعل منه، في نظري وفي نظر الكثيرين بمدينتنا حمّام سوسة بتونس شخصيّة لا مثيل لها، كلامه غير كلام الآخرين، وحركاته تختلف عن حركات غيره، وأفكاره، الّتي تتناسق مع مظهره لاسيما في لحيته البيضاء الناصعة التي تجعلُ منه واحدا من أبطال الأفلام من الوِيسْتَرْنْ أو البِيبْلُومْ، فهو في كلّ الحالات شخص مختلفٌ، ضاربٌ في الفرادة.

سيبقى مقعده في مقهى الجمهوريّة أو الباريزيان بحمّام سوسة التونسي شاغرا، ولن يكون في وسع أحد ملأه؛ ستبقى طاولته فارغة ولن يُلاعب “سلومة” الزّهر واحد آخر بنفس الطّريقة، فلا اللّعب لعبٌ ولا الرّهان رهانٌ، ولا الكلام الّذي يؤثّثُ لتلك اللّحظات الاجتماعيّة يشبه أو يُماثلُ كلامه، منتصرا كان أو خاسراً، ساخطا على رميات النّرد أو سعيدا بها. هذا هو البُجْ، لحظة حياة مختلفة داخل منظومة الزّمن العابر، الزّاحف، القاتل.

ستبقى صفحات التّواصل الاجتماعي فارغة من دون البُجْ الّذي اعتاد إمطار أعداء الوطن بوابل من الرّصاص الافتراضيّ، كما اعتاد إمتاع أصحابه بالنّكت والنّوادر والأشياء الشبقيّة، وحتّى الإيروسيّة الّتي تقتلع أجمل الابتسامات والضّحكات وأحيانا القهقهات من الشّفاه والوجوه المتعبة والضّجرة والمعكّرة بسبب كلّ ما نعيش من ظلم ومهانة منذ “أن أقبل البدر علينا في مطار تونس قرطاج الدّولي”.

حتّى على سرير المرض ثمّ الموت لم تفارق الابتسامة وجهه المكلّل بالتّعب، بدا باسما كوليد يرتقبُ ما ستهبه الحياة. ربّما هنا كانت قوّته، فهو لم يأمل ولم يطمع ولم يرغب في شيء، كان فقط يعيش ليحبَّ ويحبُّ وهو يعيش.

من أبرز علامات الحبّ الّتي اتّسم به حبّه لأبناء أصحابه الّذين كانوا جميعا يعتبرونه صديقا وأحيانا ترْبًا لهم: وفاء، عزيز، هالة، غسّان، عزّة، إبراهيم، سلوى، أريج، عزيز الّذي كان حاضرا في البيت لحظة الوداع الأخير، ألمى وأحمد، جميعهم أتراب وأحباب البُجْ، نساء ورجال وشبّان وأطفال من مختلف الأعمار يعتبرون الرّجل الطفل واحدا منهم، فهو ليس بالعمّ أو الخال، بل وِفْقَ روابط أخرى، أمتن وأقوى وأشدّ، هي روابط الصّداقة والحبّ الّتي تتغلّبُ على روابط الدمّ والعائلة. بهذا المعنى، تأسست العلاقة. نظرة أخرى إلى لعالم، هي نظرة باطنيّة، روحانيّة وربّما صوفيّة لما تكتنزه من أَلَفَةٍ وعشق لا علاقة لها جميعها بالمادّة ولا بالمصلحة.

“الوداع لا يقع إلا لمن يعشق بعينيه أمّا ذاك الذي يحبّ بروحه وقلبه فلا ثمّة انفصال أبدا”. وكأنّ هذه الكلمات لمولانا جلال الدّين الرّومي كُتبت منذ مئات السّنين لتعبّر عن هذا الرّجل، هذا المرء المميّز، هذا الكائن الأيقونة: بشير.

ولعلّ لرفيقات عُمرِ أصحابه – السّيدة، حبيبة، سُنْيَة، عفاف، سلمى- وهنّ أمّهات الأطفال الطائفين من حوله بالضحكات، وآبائهم اللاهين معه بحجر النرد، أقوال عن بشير وهو ما يمثّل في مجتمعاتنا المتناقضة وأحيانا المختلّة إلى حدّ المرض سابقة جمالية.

عندي عن البُجْ ما يملأ الصّفحات. اللّيالي الّتي قضّيناها سويّا بين ثُمْلٍ وشِعْرٍ وحبّ وغضب وبكاء خاصّة بعد اغتيال شكري بلعيد وبعد رحيل أخيه المناضل الصّادق مرجان، وبعد وفاة أولاد أحمد. كنتُ في ساعات القلق والغضب أتحدّثُ عن الموت، فكان يُواسيني باسما وصارما في الآن ذاته “مازال عندنا دبابز باش نشربوهم، وكتب باش نكتبوهم، وشيخات باش نشيخوهم”. ولهذا كان لا بد أن نشرب نخب روحه الطائفة بنا، بعد مراسم الدّفن.

هنا كوكبة من فرسان الحب، في منزل جمال أو "جميّل" كما نقول، سي الهادي الّذي اعتنى بالبج في فترة مرضه الأخيرة وبينما هو يعبر البرزخ بين عالمين، العزيز “سلومة” وسي عبدالرزّاق، وخليليّ رياض ومليك اللّذان رافقاني من الحمّامات إلى حمّام سوسة لتوديع الفقيد، وزياد الّذي كان أقام للصداقة سرادقها العالية. طافت بنا الكؤوس، مضاءة  بالنّوادر وهناك من أبكانا ضحكا وحبّا وحسرة.

ما من معنى بلا كلمات، حتى في ذروة الصمت، تولد الكلمات الحرّة الّتي تعبّرُ عن حبّنا للغائب وحب الغائب للحياة، وعن التوق لما هو أفضل. كان بشير عاشق الكلمات، حفظ عن ظهر قلب قصائد مظفّر النّوّاب (وكان يعتبره شاعره المفضّل)، ودرويش وأولاد أحمد والمنصف المزغنّي الّذي دَرَّسَ في بداية السّبعينات في ريف مدينة جندوبة صحبة المرحوم الصّادق مرجان شقيق البج الأكبر، والّذي كلّما وقعت استضافته في سوسة أو حمّام سوسة لتلاوة الشّعر، كان يُفَضِّلُ قضاء ليلته في “دار البُجْ” على قضائها في النّزل، ومختار اللّغماني الّذي كان يُبدعُ في إلقاء قصيدته الرّائعة “حفريّات في جسد عربيّ”:

“لا تهدر حلمي باسم الله وباسم الدّين/وباسم القانون/ولا تذبح قلمي/

كلماتك حمرا” قال فما لون دمي؟!

إنّي أشهد بحمام العالم/بالزّيتون المطعون/وبالبحر المسجون/وبالدّنيا

وأنا أعرف ليس على الدنيا أحلى أو أغلى من هذي الدّنيا

أشهد أنّي عربيّ حتّى آخر نبض في عرقي

عربيّ صوتي/عربيّ عشقي/عربي ضحكي وبكائي

عربي في رغباتي الممنوعة في أهوائي

عربي فيما أشعر/عربي فيما أكتب

لكنّ العالم أرحب

لكنّ العالم أرحب”.

نعم، “العالم أرحب” وهو أضيق من أن يتّسع لك في قبر في مسقط الرأس. كلّنا لها، نعم، لا محالة، لكن سيبقى اسمك وصوتك، وستبقى كلماتك ومغامراتك، لأنّنا نحبّك ولأنّك حيّ فينا لا تموت ما دمنا أحياء وما دامت ذكراك، خالدة فينا كالأشعار.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.