نزار قبّاني آخر أمراء الشعر

شاعرٌ منذ ولادته، يعرف للكلمة وقعها ودورها ورسالتها؛ فأقام لنفسه صرح الشعر، وعاش شاعر العرب الأول في العصر الحديث، يؤرخ للأحداث الجسام بقصائد الخلود؛ فاستحق لقب النصير الأول للمرأة العربية المقهورة، وللأوطان العربية السليبة.

حباه الله سر الكلمات، ووهجها، وطريقة خَلقِها؛ فأسَرَ الناسَ ببلاغته العصرية اللوذعية، ونغمه الربّاني غير المطروق من قبل، وأسَّس لنفسه معجمه اللغوي والشعري والخيالي والموسيقي النادر الخلّاب الميّاس؛ فشاع شعره بين الجِنِّ والإنس وملائكة السماء.

طويلٌ القامة، رشيق النظرة والابتسامة، جميل الطلعة والقوام، أشقر اللون والشَّعر والكلام، امتزجت في أمشاجه دماء يعرب وكنعان وعدنان، وعشق الحرية، والرسم، والجمان، والجمال، والموسيقى، والغرام؛ فكان العربيَّ بالسليقة والتكوين، والغربيَّ بالثقافة والتهجين.

عشقته الصبايا، وكان فارس أحلام العذارى، ومصدر سعادة الأرامل والحزانى، ومُلهِم الثكالى والأيامى واليتامى والحيارى.

شبَّ في بيئةٍ عربية دمشقية؛ فقرأ المتون العربية الرائعة، وتعلقت أذنه بكل ما حوله من ألحانٍ وأنغامٍ وصورٍ وأشكالٍ وخُضرةٍ وطبيعةٍ غنّاء؛ فتتكلم أمامه بعفويةٍ وعذوبة؛ فيُلهِمها التوقيع الرسمي المعتمَد، والختم النهائي الأسطوري، والإعجاز البشري الأخير.

خاض من المعارك، ما لو تعرَّض البعضُ لربع ما واجهه؛ لَهامَ على وجهه في البرِّيَّة؛ ولَطلَّق الأشعار، وعاش مع الوحوش بدلًا من بني الإنسان، ولكنه زاد إصرارًا على الإنجاز والتبريز والجلوس فوق القمر لمعانقة الشمس والاقتران بالمريخ، وهو المُطارَد من المتطرفين والديماغوجيين والسَّفّاحين.

اكتوى بالأحزان، على فلذات الأكباد والأهل والأوطان؛ وبسبب جرأته وابتكاراته وأشعاره الحِسان، ما أقام عليه الدنيا والصولجان؛ فوُصِم بأشنع الأوصاف، وتم تكفيره على منابر جوامع دمشق، والقاهرة، وبيروت، وبغداد، والحجاز، ولندن.

قال عنه العملاق عبّاس محمود العقّاد: “إنه شاعرٌ وُلد في مَخْدَع المرأة”؛ فقد عرف عن حوّاء ما لم تعرفه هي نفسها عن نفسها.

وصفه الشيخ محمد الغزالي عقب صدور ديوانه “طفولة نهد” في قاهرة الأربعينات؛ فقال: “هذا شيطان الشعر والمرأة، آتاه الله مواهب الشعراء أجمعين، في التصوير والخيال والكلام والإجادة”.

وأثنى عليه عميد الأدب العربي طه حسين؛ فقال بصدقٍ: “جمع في تألقاته بين الجرأة البالغة، والدقة التامة، والبلاغة التي بلغت القمة، والرواج والانتشار بين النخبة والعامة؛ فكان شاعر الأحداث الملتهبة، والقضايا الاجتماعية المسكوت عنها، وصديق المرأة القريب، وواصفها الأبرع الأروع”.

وقرَّظه العلّامة الدكتور الطاهر أحمد مكي؛ فقال: “هو شاعر الحس والعاطفة والحب والسياسة، والخروج على التقاليد والأعراف؛ لأنه توخَّى أن يُقيم له وللشِّعر تقاليد البقاء والنقاء”.

نزار قبّاني(1923 – 1998)، الشاعر الأول والأخير في نصف القرن الأخير من القرن العشرين، العروبي فعلًا وقولًا وحقيقةً، الباحث عن الحرية والعدالة والحق، ولو فقد من أجل ذلك روحه وعمله وذويه.. يمر الآن قرن على ميلاده، وهي حقبة تستحق أن نخصه فيها بهذا البروفايل التحليلي عبر الرسم بالكلمات والنبضات وريشة الفن والنبوغ.

دبلوماسي في عمله فقط، لكنه خرج على تقاليد السلك الدبلوماسي؛ فاخترق المحاذير السياسية، والاجتماعية، والدينية، وأشاع طريقة جديدة فريدة في التشبيب بالمرأة ووصف مفاتنها، وزاد واستفاض، ما جعله الأقرب إلى النساء والصبايا والرجال والشيوخ والساسة المعجبين بأقواله، والرافضين لأوصافه وخروقاته، وهم الذين اكتووا من نيران قصائده المدوية الوهّاجة؛ فرجموه بالحجارة، بعد أن صفقَّوا له بحرارةٍ، وقلَّدوه أكاليل الفخار مِن قبل.

وُلد في دمشق، وتعلم الثقافة العربية الأصيلة في ربوعها الفيحاء، ونال ليسانس الحقوق من جامعة دمشق، وعمل دبلوماسيًّا في سفارات سوريا في البلاد العربية، والأوروبية والآسيوية.

حينما صدر ديوانه الأول عام 1944 “قالت لي السمراء”، هاجمه علماء سوريا على المنابر؛ بتهمة خدش حياء المرأة والأسرة العربية. وحينما أصدر ديوانه الثاني “طفولة نهد” عام1948، ثار ضده شيوخ الأزهر في القاهرة.

في عام 1967، وبعد النكسة، خرج على العرب بقصيدته العصماء “هوامش على دفتر النكسة”، التي كشف فيها الهزيمة ومَن تسبَّبوا فيها؛ وبلغ من تأثيرها وانتشارها، أنْ صدر قرارٌ بمصادرة القصيدة، ومنعها، وإسقاط الجنسية العربية عنه؛ فكتب اعتذارًا للزعيم جمال عبدالناصر، كشف فيه حجم الأزمة وفداحتها، وأنه عروبي ناصري أولًا وأخيرًا؛ فأصدر عبدالناصر قرارًا بالسماح له بالمجيء إلى مصر، ونشر أشعاره.

تزوج مرتين: أنجب من زوجته الأولى قريبته السورية، ابنه توفيق، الذي فقده وهو يدرس الطب في القاهرة، فكان الغُصَّة القاتلة في حلقه، وخلَّده بقصيدةٍ بليغة، وابنته هدباء. وتزوَّج بلقيس العراقية، وأنجب منها ولدًا وبنتًا، ثم فقدها في حادث تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1982؛ فخلَّدها بأروع الشعر، وامتلأت حياته باللوعة الفاتكة.

في عام 1970، رثى عبدالناصر بأبلغ كلمات، وعدَّه آخر الأنبياء. وفي العقود التالية، لم يستحمل قلبه المثْخَن بالجراح صدمات الفوضى العربية، والانكسارات القومية؛ فخرج على العرب شاهرًا سيفه العروبي في قصائد تحمل الإدانة القاتلة للأوضاع المتردّية؛ فكتب قصائد: أشعار خارجة عن القانون، وخبز وحشيش وقمر، وقصائد مغضوب عليها، والسيرة الذاتية لسياف عربي، وثلاثية أطفال الحجارة، ومتى يعلنون وفاة العرب، وتزوجتكِ أيتها الحرية، وغيرها من القصائد التي فتحتْ عليه أبواب جهنم وسقر.

تغنَّى بأشعاره العذبة أغلب المطربين والمطربات العرب، وعلى رأسهم: العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ في رائعتَيه: قارئة الفنجان، ورسالة من تحت الماء، وكوكب الشرق أُم كلثوم غنَّتْ له: أصبح عندي الآن بندقية، ورسالة عاجلة إليك، ونجاة الصغيرة غنَّت له: أسألك الرحيل، أيظن، ومتى ستعرف كم أهواك، وغنَّت له فيروز: وشاية، ولا تسألوا ما اسمه حبيبي، وغنَّت له أصالة: اغضب، والقصيدة الدمشقية، ومن أين يأتي الفرح، كما تغنَّى له: محمد عبده، وماجدة الرومي، وكاظم الساهر، وغيرهم.

لم يستطع قلبه المرهف، ولا روحه العروبية أن تعيش بين العرب، بعد أن تغيَّرت السياسات، وتآكلت الأحلام وانقرضت؛ فعاش في لندن، وهناك تعرَّض للمضايقات من المتطرفين المتأسلمين الراديكاليين؛ فكفَّروه، وحينما هاجرتْ روحه للاستقرار أخيرًا في السماء في 30 أبريل عام 1998، رفض المتنطعون الصلاة عليها في مسجد لندن؛ فما كان من الرئيس السوري حافظ الأسد إلّا أن أمر بتسيير طائرةٍ خاصة لحمل جثمان نزار قبّاني إلى دمشق؛ لكي تُدفن روحه النورانية وسط الحشائش الخضراء، والمرابع الغنّاء، وحقول جنَّة عدن، ومع أساطين الشعراء في وادي الفرات.

نال نزار قبّاني خلود الأرض، كما ظفر بخلود السماء، وسجَّل اسمه بالإبريز الأبنوسي المختوم بالزبرجد في طائفة شعراء الإنسانية العظام؛ بمائه النمير، وروعة ألفاظه المبتكرة، وتحليقاته وتجديداته، ومناصرته للحرية والمرأة، واختياره العروبة الشامخة زوجًا له في كل مكان وزمان.