نصري حجاج.. قضية شعرية

الجمعة 2021/10/01

قبل عشر سنوات، كان لقائي الأول بالمخرج والكاتب الفلسطيني الراحل نصري حجاج، الذي غادرنا الشهر الماضي، حين غدر به الموت، وفرق بيننا وبينه وبين أصدقائه ومشاهدي أفلامه، ومحبي كتاباته الصادقة والصارخة. التقيته، يومها، في مهرجان تطوان السينمائي الدولي رفقة الممثلة العالمية كلاوديا كاردينالي والمخرج المصري داود عبدالسيد والناقد السينمائي الفرنسي الشهير سيرج توبيانا، مدير “دفاتر السينما” العريقة، وكذا المؤرخ الفرنسي روني غاليسو، والممثل المصري الراحل محمود عبدالعزيز، وآخرين وأخريات. أجريت حوارات ولقاءات، وربطت علاقات وصداقات مع هؤلاء وأولئك، في السينما والثقافة والسياسة والحياة، بينما كان نصري رفيقي في شوارع المدينة وأزقتها ودروبها العريقة، في قاعاتها السينمائية الفسيحة وفضاءاتها الفنية الخلاقة. كان المشارك الوحيد الذي تقاسم معي أكثر من هاجس، في السينما والشعر والصحافة، والكثير من الانشغال بالسياسة، فكان هذا الحوار الخاص.

والحال أن نصري كان مشاركا في الدورة السادسة عشرة للمهرجان بفيلم “كما قال الشاعر” عن الشاعر محمود درويش. خضنا في الفنون والأفلام والأشعار، وفي مآزق اليسار، في القضايا العربية المطروحة، والقضية الفلسطينية. حينها بادرته بالسؤال: هل هي حقا قضية فلسطينية أم قضية عربية وكونية، فكان جوابه أنها قضية شعرية. من هنا، انطلق الحوار بيننا، وقد نشرت جزءا منه في “يومية مهرجان تطوان”، التي كنت أشرف عليها في ذلك الوقت. وها أنا أحرر الحوار كاملا، وأخص به “الجديد” لينشر كاملا للمرة الأولى كتحية لنصري حجاج وإشارة، ليس إلا، إلى أنه باق بيننا.

الجديد: قريبا من جدار الفصل العنصري، ينطلق فيلمك الوثائقي الأول “ظل الغياب” بمقطع من شعر درويش، في مشهد جنائزي مؤثر، كما أن عنوان الفيلم هو نفسه استعارة درويشية صريحة. واليوم، تخصص فيلما وثائقيا خاصا بدرويش. لكنّ الفيلمين معا ينطلقان من فضاء المقبرة، وينبعثان من رماد الموت. ما سر ذلك؟

نصري حجاج: لعل المقبرة هي الصورة السينمائية والشعرية التراجيدية والفجائعية في تجربتي، عبر السينما والحياة. وهي صورة تلخص المشهد الفلسطيني منذ ما يزيد عن نصف قرن. لعل سيرة فلسطين هي سيرتي، حيث ولدت المأساة الجماعية والفردية في وقت واحد. إذ لا يصعب الحديث عن سيرة شخصية للإنسان العربي المعاصر، إذ قُيض لها أن تكون جزءا من سيرة جماعية وملحمة عربية مؤلمة.

لقد فتحت عيني في مخيم عين حلوة، هنالك حيث ولدت، بداية الخمسينات، على مشاهد القتل والدفن، والترحم على الشهداء في حضرة القبور. وعندما كنت في لبنان، غداة الحرب الأهلية، سوف يُحرم شهداء فلسطينيون ينتمون إلى الحزب الاجتماعي القومي السوري من الدفن في المقابر. مثلما منع شهداء فلسطينيون آخرون من مقابر تؤويهم في صيدا، بعد استشهادهم… ولعل هذا ما جعل من فيلمي الوثائقي الأول فيلما جنائزيا، على حد تعبيرك.

.. صحيح أن فيلم “كما قال الشاعر” هو فيلم عن محمود درويش، لكن استحضار شعر درويش في فيلم “ظل الغياب”، كما ذكرت، دليل على أن درويش رمز أيضا، وليس مجرد شاعر عابر. رمز القضية، رمز الهوية، أيضا، ورمز الشعرية أساسا. ربما كان الهدف في مشروعي السينمائي هو منح السينما نفسا شعريا، ما دام الشعر أعمق أشكال البوح الإنساني، وأسمى تعبيراته الفنية. وعلى السينما أن تقتدي بالشعر وتهتدي به، كما فعلت الرواية من قبل، وكما تفعل الفنون الأخرى من رسم وموسيقى. وعلينا أن ننتبه، ونحن نستحضر صديقنا الراحل محمود درويش، وشعراء آخرين وشاعرات، من أمثال سميح القاسم وتوفيق زياد وفدوى طوقان وأحمد دحبور وعزالدين المناصرة ومعين بسيسو… أن القضية الفلسطينية قضية شعرية أولا.

الجديد:  يذكرني تصورك بعبارة للفنان والشاعر والمخرج الفرنسي جان كوكتو، حين يصرح بأن “السينما رسم بالشعر”. وهو هنا يجمع بين الثلاثة فنون: الشعر والرسم والسينما. هل يمكن أن تكون هنالك لوحة أو سينما دون شعر؟

بوكس

نصري حجاج: ربما وجب علينا أن نبدأ بالرواية أولا. وهي لن تكون رواية إذا ما افتقدت لروح الشعر. ستظل مجرد سرد لوقائع وأحداث قد تجري في أيّ مكان، وهي تحدث باستمرار في حياتنا اليومية، وعبر التاريخ. لكن، لا يمكن أن تتحول حياة جميع الناس إلى فيلم سينمائي، أو إلى فيلم وثائقي. بخلاف سيرة درويش، وسير شعراء آخرين، عرب وعالميين، يمكن أن نرفعها إلى ضوء السينما لأنها جديرة بأن تحكى، وأن يتم تصويرها، بما أوتيت من شعرية، وبالنظر إلى المسار التراجيدي الذي خاضته في مواجهة الأقدار والأخطار المحدقة بها.

الجديد: أنت أيضا خضت مسارات واجتزت مفازات كثيرة في سبيل إعداد الفيلم الوثائقي “كما قال الشاعر”، عن الراحل محمود درويش. وهنا، يبح المخرج نفسه بطلا تراجيديا يخوض مهمة إنجاز الفيلم وإنتاج الجمال. في هذا الفيلم، قمت بأسفار كثرة إلى عواصم ثقافية عالمية من أجل اللقاء بأصدقاء درويش، والاستماع إلى شهاداتهم، على غرار ساراماغو ووول، سوينكا ودومينيك، دوفلبيبان ومايكل ألمر…؟ هل يستحق الفيلم كل هذا المجهود وهذا التعب الجميل، أم أن درويش هو من يستحق ذلك؟

نصري حجاج: بالفعل، الموضوع هو الذي يستحق ذلك. ففي فيلمي السابق صورت في 11 بلدا، حتى وصلت إلى فيتنام، ولو توفرت لي الإمكانيات المالية والإنتاجية لوصلت إلى كل دول أفريقيا وأميركا اللاتينية. أما بالنسبة إلى فيلم “كما قال الشاعر”، فإن الرؤية الإخراجية للفيلم هي التي فرضت عليّ طبيعة الاشتغال. فلما وضعت السيناريو تبين لي أن هنالك بلدانا أثرت في تجربة درويش، وأصبح لزاما علي أن أزورها.

بلدان قرأ فيها درويش أشعاره، وتأثر بها أيما تأثير. كما أن أغلب الشخصيات التي اخترتها لكي تقرأ شعر درويش من كتاب وشعراء عالميين كبار، فما كان لي إلا أن أشد الرحال إليهم حيث هم. فقصدت الكاتب العالمي وصاحب نوبل خوصي لويس ساراماغو، في مقر إقامته في لانثاروتي بجز الكناري… ولو كان في البرتغال لذهبت إلى البرتغال. ولما اتصلت بالشاعر الأميركي ميكل ألمر تبين أنه سيكون متواجدا في سان سيباستيان، وأن سأكون، خلال الفترة نفسها، منهمكا في التصوير بالعاصمة الفرنسية باريس، مع الشاعر ورئيس الوزراء الفرنسي يومها دومينيك دو فليبان، فقررنا أن نلتقي في سان سيباستيان، على أنه لو كان في أميركا لقصدته أيضا.

الجديد: في هذا الفيلم، نجد أن الذين قاموا بتصوير وإخراج كل المشاهد واللقاءات مع هؤلاء الكتاب العالميين ينتمون إلى دول مختلفة. ألا ترى أن اختلاف النظرة والرؤية التصويرية بأعين سينمائية متعددة هو الذي منح الفيلم تعددا في الأصوات والرؤى؟

نصري حجاج: نعم، فمديرة التصوير جوسلين أبي جرار، وهي لبنانية، قامت بالتصوير في كل البلدان التي استطاعت أن تسافر معي إليها. وهي التي كانت تدير التصوير والكاميرا. أما في فلسطين، مثلا، فلم يكن ممكنا لها أن تذهب إلى هنالك، لأنها لبنانية ولا تحمل الجنسية الفلسطينية. وفي لانثاروتي، لم تتوفر لها الفيزا الإسبانية، وأنا كنت قد حسمت موعدا مع ساراماغو، وهو موعد لا رجعة فيه طبعا. وهنا، اتصلت بسكرتيره الذي دلني على مصور محترف يتكفل بتصوير كل ما هو خاص بالكاتب البرتغالي الشهير.

الجديد: كيف جاءت فكرة الاشتغال على هذا المشروع الوثائقي من البداية؟

غلاف كتاب

نصري حجاج: قبل أن أتمكن من ضمان تمويل لهذا العمل السينمائي، كنت شرعت في التصوير وأنا أعبّر من بيروت إلى الأردن نحو بيت محمود درويش رفقة كاميرا ماجدة كباريتي. وحين تحصل لديك قناعة بمشروع فيلمي أو فني معين، تشرع في ذلك. وحينها لا يمكن لك أن تتراجع إلى الوراء، ويمكنك أن تضحي بكل شيء من أجل تحقيق المشروع وتصوير الفيلم. وهو ما حدث لي مع هذا الفيلم، يقينا مني أنني لم أعد أمام فيلم عن القضية وعن شاعرها، أي شاعر القضية محمود درويش، كما يسمى غالبا. بل صرت أمام قضية شخصية وفنية اسمها الفيلم السينمائي الوثائقي.

الجديد: يبدأ الفيلم بعزف منفرد على البيانو (يقطر من أصابع العازفة اللبنانية هبة القواس). مخرجة فلسطينية تابعت معنا عرض الفيلم في تطوان، سألناها عن سر هذا البيانو فقالت: إنه رمز الأنوثة والحياة. هل تحمل نفس القراءة والتأويل؟

نصري حجاج: توصيف جميل وصائب جدا، والعزف على البيانو هو بالتأكيد رمز الأنوثة والحياة. وأنا استبعدت العود، رغم أن درويش كثيرا ما قرأ قصائده بمصاحبة الإخوة جبران في العزف على العود. مثلما فعل مع مارسيل خليفة أيضا. وسبب استبعادي آلة العود كونها آلة شرقية بامتياز، وأنا ما كنت أريد أن يحس المتلقي، عبر العالم، خاصة بالنسبة إلى من لا يعرف درويش جيدا، أنه بصدد شاعر إقليمي. لم أكن أريد أن أعطيهم الانطباع بأن درويش شاعر عربي وشرقي فحسب، بل شاعر كوني وعالمي، وكذلك كان وهكذا سيبقى. كما هو شأن البيانو بوصفه آلة موسيقية كونية. فغالبا ما نجد العازفين على العود ذكورا فقط، بينما نجد البيانو آلة عزف عليها الرجال، كما برعت في العزف عليها مبدعات عالميات. أما العود فآلة ذكورية تذكرنا، كثيرا، بالعقلية البطريركية العربية الشرقية. هذا الانتصار للأنوثة، من هذا الجانب، يحاول أن يعكس انشغال درويش في قصائده الأخيرة بسؤال الأنوثة، بشكل ملحوظ. ففي قصيدة من ديوانه الأخير “لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي” يتساءل الشاعر “من أنا الآن إلا إذا التقت الاثنتان/أنا وأنا الأنثوي”، أو عندما يتحدث عن “بهاء كامل التأنيث”، تبعا لصورة شعرية أخرى. على أن ما كان يحبه درويش هو “يوم نسائي”، كما كان يردد دائما. وكما قدمت محمود درويش بصوت أصدقائه من الكتاب والشعراء العالميين، فقد قدمت هبة القواس قصائده بالعزف على البيانو، كما قدمه ذلك الأبكم بحركاته الدقيقة والعميقة. ولاحظ أن هبة القواس كانت تعزف وأمامها قصيدة “لاعب النرد” بخط يد درويش بدل الجمل الموسيقية، وهي إنما ارتجلت تلك الموسيقى حينها، ولم يكن الأمر مرتبطا بموسيقى تصويرية.

الجديد: ها نحن ننصت مرة أخرى للموسيقى، بينما نتحدث عن القضية، وننصت للشعر بينما نحاول فهمها، أو مشاهدة صور تعبر عنها من خلال السينما.

نصري حجاج: صحيح، ونحن في العالم العربي، وفي أقاصي أفريقيا وأميركا الجنوبية، مثلا، لا يمكن أن نتحرر ما لم نؤمن بقيمة الحياة، كما نتعلمها من كبار المعلمين والمبدعين، في الشعر والموسيقى والسينما، ومن أمهاتنا وأطفالنا، في إصرارهم على الحياة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.