يجلس‭ ‬على‭ ‬حجر‭ ‬ويتذكر‭ ‬نزار‭ ‬قباني

الثلاثاء 2018/05/01

إذن ينبغي‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أزيح‭ ‬أحجارا‭ ‬مربعة‭ ‬وأنا‭ ‬عائد‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬وأظل‭ ‬أدحرجها‭ ‬حتى‭ ‬تستقر‭ ‬جوار‭ ‬بيتي‭ ‬وأتركها‭ ‬تكبر‭ ‬طول‭ ‬الليل‭ ‬لأنظر‭ ‬لها‭ ‬عند‭ ‬الفجر‭ ‬وأستدعي‭ ‬أبي‭ ‬وجلوسي‭ ‬الطويل‭ ‬على‭ ‬الأحجار‭ ‬عقب‭ ‬تحذيراته‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬بالذات‭ ‬«إلا‭ ‬نزار‭ ‬يا‭ ‬ولدي‮»‬،‭ ‬صورتي‭ ‬عنك‭ ‬ستسير‭ ‬نحو‭ ‬سكة‭ ‬الانفلات‭ ‬الأخلاقي،‭ ‬ألا‭ ‬يكفي‭ ‬عدم‭ ‬الصلاة‭! ‬كانت‭ ‬عيون‭ ‬القرى‭ ‬النائية‭ ‬التي‭ ‬تملك‭ ‬قدرا‭ ‬ضئيلا‭ ‬من‭ ‬الوعي،‭ ‬بالتعليم‭ ‬الإلزامي،‭ ‬تخافه‭ ‬وتحس‭ ‬بقلق‭ ‬إزاء‭ ‬شيطان‭ ‬يكشف‭ ‬المستور،‭ ‬هم‭ ‬الرجال‭ ‬المقموعون‭ ‬بالسياسة‭ ‬والتجاهل،‭ ‬المعذبون‭ ‬بأجسادهم،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يمارس‭ ‬الرفض‭ ‬والحب‭ ‬علنا‭. ‬العجيب‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬الذي‭ ‬جوبه‭ ‬به‭ ‬نزار‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬منذ‭ ‬أربعينات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬استمر‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬منسية‭ ‬وعبر‭ ‬أناس‭ ‬منسيين‭. ‬

ثم‭ ‬دارت‭ ‬الأحجار‭ ‬وصغر‭ ‬حجمها‭ ‬وصارت‭ ‬مدببة‭ ‬وشائكة‭ ‬أكثر‭ ‬واقتربت‭ ‬من‭ ‬حذاء‭ ‬الفتى‭ ‬ليُطيِّرها‭ ‬بعنف‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الجامعة‭ ‬حيث‭ ‬ستعاود‭ ‬الثنائيات‭ ‬تحوراتها،‭ ‬فبعد‭: ‬شوقي‭ ‬أم‭ ‬حافظ،‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬أم‭ ‬العقاد،‭ ‬صلاح‭ ‬عبد‭ ‬الصبور‭ ‬أم‭ ‬حجازي،‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬أم‭ ‬أدونيس،‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬أم‭ ‬فيروز،‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬أم‭ ‬عفيفي‭ ‬مطر‭.. ‬يتم‭ ‬استدعاء‭ ‬نزار‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬معبود‭ ‬المراهقين‭ ‬الجديد،‭ ‬فاروق‭ ‬جويدة،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬الثمانينات‭ ‬والتسعينات‭ ‬ملعبه‭ ‬السحري‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬بموافقة‭ ‬السلطة‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬ملأت‭ ‬به‭ ‬الفراغ‭ ‬وغطت‭ ‬ببريقه‭ ‬الوهمي‭ ‬على‭ ‬الحصار‭ ‬الذي‭ ‬فرضته‭ ‬على‭ ‬الطليعيين‭ ‬ونصوصهم‭ ‬الجديدة‭ ‬الخارجة‭ ‬على‭ ‬المزاج‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬العام‭ ‬والعصية‭ ‬على‭ ‬التأطير،‭ ‬ليصير‭ ‬نزار‭ ‬ساعتها‭ ‬هو‭ ‬الأصل‭ ‬والمَعين‭ ‬ويعود‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬البوصلة‭ ‬التي‭ ‬تكشف‭ ‬الزيف‭.. ‬بعدها‭ ‬تتحول‭ ‬كل‭ ‬بوصلة‭ ‬إلى‭ ‬ميزان‭ ‬بإحدى‭ ‬كفتيه‭ ‬الله‭ ‬وفي‭ ‬الأخرى‭ ‬الشيطان،‭ ‬ويصبح‭ ‬الجنون‭ ‬والتمرد‭ ‬والاختلاف‭ ‬هو‭ ‬المعيار‭ ‬ويتوارى‭ ‬كل‭ ‬مستقر‭ ‬في‭ ‬موقعه‭ ‬الشعري‭ ‬وفي‭ ‬القلب‭ ‬منهم‭ ‬بالقطع،‭ ‬الإمبراطور‭ ‬ومعشوق‭ ‬النساء‭ ‬ورئيس‭ ‬جمهورية‭ ‬الشعر‮…‬‭ ‬

كانت‭ ‬مراحل‭ ‬حدية‭ ‬ترنَّحتُ‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬الحب‭ ‬والكره،‭ ‬بين‭ ‬الانحياز‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التماهي‭ ‬والرفض‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬القتل‭.. ‬كان‭ ‬الموقف‭ ‬كذلك‭ ‬لا‭ ‬يستغرق‭ ‬زمنه‭ ‬المفترض‭ ‬فأحتضن‭ ‬رقبة‭ ‬الرمز‭ ‬اليوم‭ ‬كي‭ ‬أطبع‭ ‬قبلة‭ ‬وفي‭ ‬الغد‭ ‬تصرخ‭ ‬نفس‭ ‬الرقبة‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬تشنج‭ ‬الكفيْن‭.. ‬وعندما‭ ‬صار‭ ‬تورطي‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬نهائيا،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬تائها‭ ‬وسط‭ ‬الحلم‭ ‬مع‭ ‬مجموعات‭ ‬اليسار‭ ‬بالثورة،‭ ‬وبتعاطي‭ ‬الفلسفة‭ ‬والحلم‭ ‬والتخطيط‭ ‬لتبنيها‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬جماهيري‭ ‬واسع،‭ ‬وبإعلان‭ ‬الأسئلة‭ ‬الخالدة‭ ‬والوجودية‭ ‬وفضحها‭ ‬لتُحَلّ‭ ‬أو‭ ‬لننتحر‭ ‬جميعا‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬المدينة‮…‬‭ ‬

صار‭ ‬الشعر‭ ‬لغة‭ ‬لهذا‭ ‬المنطوي‭ ‬رغم‭ ‬صخب‭ ‬الجامعة‭ ‬وذراعا‭ ‬وعينا‭ ‬وإرادة‭ ‬يجبر‭ ‬بها‭ ‬كسر‭ ‬خوفه‭ ‬الدائم‭ ‬وكلما‭ ‬تمرّ‭ ‬السنين‭ ‬يتذكر‭ ‬جميل‭ ‬نزار‭ ‬ودرس‭ ‬نزار‭: ‬الجرأة‭ ‬والثورة‭ ‬والحرية‭ ‬وكشف‭ ‬الكبت‭ ‬وعقيدة‭ ‬لا‭ ‬نهائية‭ ‬الأنثى،‭ ‬كموضوعات‭ ‬شعرية،‭ ‬لكن‭ ‬الأخطر‭ ‬والأهم‭ ‬والأبقى‭ ‬هو‭ ‬دوره‭ ‬بالنسبة‭ ‬للغة‭ ‬الشعرية،‭ ‬وإضافته‭ ‬البراقة‭: ‬تفكيك‭ ‬اللغة‭ ‬الجزلة‭ ‬المتعالية‭ ‬المقدسة‭ ‬ورفدها‭ ‬بالعادي‭ ‬المتاح‭ ‬البسيط،‭ ‬هو‭ ‬الأب‭ ‬مهما‭ ‬تناسوا،‭ ‬لليومي‭ ‬والمعيش‭ ‬ولشعرنة‭ ‬التفاصيل‭ ‬وللشفاهية‭ ‬عندما‭ ‬تكتسب‭ ‬فنيتها‭ ‬من‭ ‬الشعرية‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬اللغة،‭ ‬وهو‭ ‬جميل‭ ‬لو‭ ‬تعلمون‭ ‬خطير،‭ ‬من‭ ‬شاعر‭ ‬يبتعد‭ ‬عن‭ ‬الترع‭ ‬والأشجار‭ ‬والطين‭ ‬ليمشط‭ ‬مشاعره‭ ‬بلغة‭ ‬مغسولة،‭ ‬حداثية،‭ ‬شاعر‭ ‬مديني،‭ ‬حديث‭ ‬ومعاصر‭ ‬طول‭ ‬الوقت‭..‬

(2)

عندما‭ ‬خضت‭ ‬مع‭ ‬الخائضين‭ ‬في‭ ‬معارك‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬كنت‭ ‬أتجاهله‭ ‬عامدا،‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬الخانة‭ ‬الفنية‭ ‬الضيقة‭ ‬التي‭ ‬أحصوا‭ ‬فيها‭ ‬أنفاسه‭ ‬عندما‭ ‬وضعوه‭ ‬فيها‭ ‬ثم‭ ‬قل‭ ‬هربا‭ ‬من‭ ‬حسد‭ ‬الجميع‭ ‬لهذا‭ ‬النموذج‭ ‬النجم،‭ ‬كنت‭ ‬أذكر‭ ‬الماغوط،‭ ‬الأقرب‭ ‬لنا‭ ‬بوحشيته‭ ‬وعدم‭ ‬هندامه‭ ‬واقتناصه‭ ‬للحياة‭ ‬بفجاجتها‭ ‬وواقعيتها‭.. ‬أين‭ ‬نحن‭ ‬بفقرنا‭ ‬وصعلكتنا‭ ‬من‭ ‬المخملية‭ ‬والنعومة‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬تضخمت‭ ‬بالمبدئية‭ ‬والشجاعة؟‭ ‬لكني‭ ‬لما‭ ‬تخليت‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬الواحد‭ ‬وجمعت‭ ‬الجميع‭ ‬وصارحتهم‭ ‬بأنهم‭ ‬يملكون‭ ‬جزءا‭ ‬مني‭ ‬ولست‭ ‬أنا‭ ‬بالكلية،‭ ‬أصبحت‭ ‬أعترف‭ ‬بنفعيتي‭ ‬مع‭ ‬المنجز‭ ‬الإبداعي‭ ‬أيا‭ ‬كان‭ ‬موقعه‭ ‬وباستفادتي‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ألوان‭ ‬الطيف،‭ ‬من‭ ‬المحافظين‭ ‬ومن‭ ‬المتمردين‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬الكتابة‭ ‬والفنون،‭ ‬وبهذا‭ ‬خفَّت‭ ‬حدة‭ ‬الإشكاليات‭ ‬واختفت‭ ‬الثنائيات‭ ‬وعانى‭ ‬النجوم‭ ‬من‭ ‬مزاحمة‭ ‬الكثيرين‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬هوائهم‭ ‬الذهبي،‭ ‬كلهم‭ ‬أساتذتي‭ ‬أو‭ ‬أعدائي‭ ‬حتى،‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬أمتص‭ ‬رحيقهم‭ ‬وألصق‭ ‬عصيرهم‭ ‬بروحي‭ ‬وبهذا‭ ‬كان‭ ‬رد‭ ‬الاعتبار‭ ‬لنزار‭ ‬عفويا‭ ‬وبلا‭ ‬معاظلة‭..‬

‭(‬3‭)‬

في‭ ‬أوقات‭ ‬كثيرة‭ ‬كانت‭ ‬نميمة‭ ‬نزار‭ ‬شيئا‭ ‬مبهجا‭ ‬وذلك‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬نقائص‭ ‬نردّ‭ ‬بها،‭ ‬متعالين،‭ ‬ونحن‭ ‬أبناء‭ ‬شعرية‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدا‭ ‬وغموضا‭ ‬وابتعادا،‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يحاول‭ ‬أسطرته‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬هو‭ ‬اللصيق‭ ‬بشعرية‭ ‬عامة‭ ‬ولينة،‭ ‬تخص‭ ‬الجميع‭ ‬وليست‭ ‬النخبة‭: ‬مثلنا‭ ‬نحن‭ ‬الوحيدين‭ ‬الذين‭ ‬نقرأ‭ ‬لأنفسنا‭ ‬فقط،‭ ‬لكننا‭ ‬نفاجَأ‭ ‬أننا‭ ‬نستمتع‭ ‬بكل‭ ‬أحوال‭ ‬سيرته‭ ‬وتحولاتها‭ ‬بنفس‭ ‬قدر‭ ‬رصدنا‭ ‬لمراحله‭ ‬الشعرية،‭ ‬كان‭ ‬يضحك‭ ‬بخبثٍ‭ ‬ويقول‭: ‬تربيتم‭ ‬معي‭ ‬فلا‭ ‬تنكروا‭ ‬يا‭ ‬أشقياء؛ جده‭ ‬أبوخليل‭ ‬القباني،‭ ‬يعني‭ ‬أسرة‭ ‬تمسك‭ ‬السحاب‭ ‬منذ‭ ‬الأزل،‭ ‬حب‭ ‬الموسيقى‭ ‬ثم‭ ‬حب‭ ‬الرسم،‭ ‬انتحار‭ ‬شقيقته‭ ‬وصال،‭ ‬تعلُّم‭ ‬أصول‭ ‬النحو‭ ‬والصرف‭ ‬والبديع‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬من؟

‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬خليل‭ ‬مردم‭ ‬بك‭!‬،‭ ‬ديوان‭ ‬«طفولة‭ ‬نهد‮»‬‭ ‬وقصة‭ ‬الزيات،‭ ‬ونشر‭ ‬الاسم‭ ‬هكذا‭: ‬طفولة‭ ‬نهر،‭ ‬حادثة‭ ‬وفاة‭ ‬بلقيس‭ ‬البهية‭ ‬زوجته‭ ‬جرَّاء‭ ‬تفجير‭ ‬إرهابي‭ ‬في‭ ‬السفارة‭ ‬العراقيَّة،‭ ‬وفاة‭ ‬نجله‭ ‬توفيق،‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬الدبلوماسية،‭ ‬المطربون‭ ‬والأغنيات،‭ ‬هزيمة‭ ‬1967‭ ‬وتحوله‭ ‬إلى‭ ‬الممنوع‭ ‬والمصادر،‭ ‬والجماهيري‭ ‬أيضا‭ ‬وعلى‭ ‬الدوام‭!! ‬بعد‭ ‬«هوامش‭ ‬على‭ ‬دفتر‭ ‬النكسة‮»…‬‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تفاصيل‭ ‬أكتبها‭ ‬بسرعة‭ ‬ودون‭ ‬توثيق‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬حواديتنا‭ ‬السحرية‭ ‬التي‭ ‬نملأ‭ ‬بها‭ ‬جلسات‭ ‬القطار‭ ‬الكهل‭ ‬ذي‭ ‬النوافذ‭ ‬والأبواب‭ ‬المحطمة،‭ ‬الذي‭ ‬يُسقط‭ ‬ماء‭ ‬ملتبسا‭ ‬من‭ ‬سقفه‭ ‬الصدئ‭ ‬على‭ ‬رؤوسنا‭.. ‬كما‭ ‬لا‭ ‬أنسى‭ ‬تحورها‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬لأشكال‭ ‬من‭ ‬الحوار‭ ‬أكثر‭ ‬جفافا‭ ‬تتناول‭ ‬مراحله‭ ‬الشعرية‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬المرحلة‭ ‬الناضجة‭ ‬التي‭ ‬ستبقى‭ ‬في‭ ‬المتن‭ ‬الشعري‭ ‬لمدد‭ ‬أطول‭: ‬المرحلة‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬والدواوين‭ ‬الأولى،‭ ‬ثم‭ ‬مرحلة‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬الخمسينات‭ ‬والستينات،‭ ‬وانتهاء‭ ‬بالمرحلة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬الناضجة‭ ‬والأكثر‭ ‬رسوخا‭ ‬وشعرية‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬السيطرة،‭ ‬على‭ ‬الرسالة‭ ‬الفنية‭ ‬المرتجاة‭ ‬بلا‭ ‬جُمَل‭ ‬مجانية‭ ‬ظلت‭ ‬تصلح‭ ‬ككليشيهات‭ ‬اجتماعية‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تأخذ‭ ‬الشعر‭ ‬إلى‭ ‬غايات‭ ‬ليست‭ ‬شعرية‭ ‬بالأساس‭.. ‬

وبالطبع‭ ‬لم‭ ‬نتنازل‭ ‬أبدا‭ ‬عن‭ ‬شرعية‭ ‬أن‭ ‬نقرر‭ ‬عدم‭ ‬تخليه‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الحداثة‭ ‬تلك‭ ‬عن‭ ‬خطابيته‭ ‬وتقريريته‭ ‬وتبسيطه،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬سيظل‭ ‬شاعرا‭ ‬يلتقط‭ ‬روح‭ ‬الحياة‭ ‬عبر‭ ‬تفاصيلها‭ ‬وروائحها‭ ‬وحسيتها‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬العدل‭ ‬ولا‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬نُنعي‭ ‬عليه‭ ‬كونه‭ ‬ليس‭ ‬شاعر‭ ‬أفكار‭ ‬ولا‭ ‬تصورات‭ ‬ولا‭ ‬فلسفة‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬نفي‭ ‬شاعريته‭.. ‬لقد‭ ‬ظهر‭ ‬من‭ ‬درس‭ ‬الزمن‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬أن‭ ‬تحاسب‭ ‬مشروعا‭ ‬فنيا‭ ‬بآليات‭ ‬تتمترس‭ ‬خارج‭ ‬أسواره‭ ‬لتضربه‭ ‬بمدفعيتها‭ ‬القاهرة‭ ‬والقادرة‭.. ‬لقد‭ ‬أجاد‭ ‬البساطة‭ ‬وحب‭ ‬الحياة،‭ ‬وكلّ‭ ‬ما‭ ‬احتاجتها‭ ‬إنسانيتنا‭ ‬نجده‭ ‬عنده‭.‬

‭(‬4‭)‬

إن‭ ‬ارتباط‭ ‬نزار‭ ‬بتاريخنا‭ ‬الشخصي‭ ‬يجعله‭ ‬حاضرا‭ ‬طول‭ ‬الوقت‭ ‬وإن‭ ‬بالنقض‭ ‬والرفض،‭ ‬هو‭ ‬تحت‭ ‬جلدنا‭ ‬أيا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬درجة‭ ‬نزق‭ ‬أو‭ ‬نضج‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬نتعامل‭ ‬فيها‭ ‬مع‭ ‬مشروعه‭.. ‬وكلما‭ ‬شابت‭ ‬شعورنا‭ ‬نزداد‭ ‬هدوءا‭ ‬وادعاء‭ ‬للحكمة‭ ‬ونقرر‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬لا‭ ‬السيرة‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يتبقى،‭ ‬المنجز‭ ‬والمشروع،‭ ‬لذلك‭ ‬ننتقي‭ ‬من‭ ‬جواهره‭ ‬ما‭ ‬سيظل‭ ‬يصاحبنا‭ ‬بحرية‭ ‬وباتساعٍ‭ ‬أكبر،‭ ‬نختار‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬الشاعر‭ ‬بعدما‭ ‬صار‭ ‬عاريا‭ ‬بلا‭ ‬هالاتٍ‭ ‬ولا‭ ‬سلطة،‭ ‬بنفس‭ ‬القدرة‭ ‬التي‭ ‬نتصالح‭ ‬فيها‭ ‬مع‭ ‬كوننا‭ ‬لا‭ ‬ننسى‭ ‬أننا‭ ‬نحنُ‭ ‬الذين‭ ‬ارتعشنا‭ ‬مع‭ ‬أشعاره،‭ ‬أيام‭ ‬الحب‭ ‬البسيط،‭ ‬الأصدق،‭ ‬واكتشفنا‭ ‬غابات‭ ‬الجسد‭ ‬ولوحنا‭ ‬له‭ ‬شاكرين‭ ‬ورددنا‭ ‬قصائده‭ ‬السياسية‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬وعينا‭ ‬الإنساني‭ ‬والسياسي‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬التعقيد،‭ ‬حينما‭ ‬كان‭ ‬الأصدق‭ ‬أيضا‭.. ‬وتبقى‭ ‬الجماهيرية‭ ‬الكاسحة‭ ‬للشاعر‭ ‬كشفا‭ ‬دائما‭ ‬لمعضلة‭ ‬الوعي‭ ‬والمزاج‭ ‬العام‭ ‬والتوقيت‭ ‬المرتبط‭ ‬بالسياسة‭ ‬وألعاب‭ ‬الشاعر‭ ‬لمغازلة‭ ‬الذائقة‭ ‬وشكل‭ ‬الكتابة‭ ‬كذلك،‭ ‬تظل‭ ‬سؤالا‭ ‬مُركَّبا‭ ‬صالحا‭ ‬للتفجر‭ ‬طول‭ ‬الوقت،‭ ‬حيويا‭ ‬ودافئا‭.. ‬

لماذا‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬بهذا‭ ‬الإبهار‭ ‬ولماذا‭ ‬استمر‭ ‬الجمهور‭ ‬يؤدي‭ ‬نفس‭ ‬أداءات‭ ‬الإعجاب‭ ‬والتقدير‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬توافر‭ ‬جميع‭ ‬الشعراء‭ ‬على‭ ‬الشبكة‭ ‬العنكبوتية‭ ‬بمعنى‭ ‬ظهور‭ ‬وانكشاف‭ ‬وتجلي‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬مختفيا‭ ‬بفعل‭ ‬السياسة‭ ‬وتغيرات‭ ‬الذائقة‭ ‬والتشريد‭ ‬الجغرافي‭ ‬والموت‭ ‬المبكر؛‭ ‬رياض‭ ‬الصالح‭ ‬الحسين‭ ‬ومحمد‭ ‬الصغير‭ ‬أولاد‭ ‬أحمد‭ ‬وسركون‭ ‬بولس‭ ‬وصلاح‭ ‬فائق‭ ‬ونصيف‭ ‬الناصري‭ ‬وأجيال‭ ‬كاملة‭ ‬بعدهم‭.. ‬هم‭ ‬نجوم‭ ‬الآن‭ ‬ولا‭ ‬عزاء‭ ‬للجغرافيا‭ ‬المغرورة‭ ‬والزمن‭ ‬قصير‭ ‬النظر‭.. ‬ولماذا‭ ‬تراوح‭ ‬النقاد‭ ‬بين‭ ‬الابتعاد‭ ‬والاقتراب،‭ ‬الرفض‭ ‬وإعادة‭ ‬الاكتشاف‭ ‬طول‭ ‬الوقت‭.. ‬أسئلة‭ ‬كلما‭ ‬تَصَادف‭ ‬أنها‭ ‬تحل‭ ‬في‭ ‬مناسبة‭ ‬الغياب،‭ ‬تُثْبت‭ ‬وتحفر‭ ‬عميقا‭ ‬في‭ ‬الحضور‭ ‬والحضور‭.. ‬وهل‭ ‬تعانُق‭ ‬ميلاد‭ ‬نزار‭ ‬مع‭ ‬عيد‭ ‬الأم،‭ ‬وعيد‭ ‬النوروز‭ ‬المقدس،‭ ‬واليوم‭ ‬العالمي‭ ‬للشعر‭ ‬إلا‭ ‬لعبة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الآلهة‭ ‬تجعل‭ ‬الرجل‭ ‬يهز‭ ‬رأسه‭ ‬مبتسما‭ ‬ويرفل‭ ‬في‭ ‬ديباجه‭ ‬مطمئنا‭ ‬وراضيا‭ ‬إلى‭ ‬أبد‭ ‬الآبدين؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.