يوميات العالم

كان يمكن أن تمر وفاة مالك بن الريب (17 هـ – 57 هـ / 638 م – 677 م) دون أن يلتفت التاريخ، كان يمكن للرمال أن تطمس سيرته، فلا شيء مميزا يجعله يحجز صفحة في كتاب العرب، فهو ليس أكثر من مجرد لص آخر أعلن توقفه عن قطع الطريق وحسنت توبته.
لكنه، وبينما يلفظ أنفاسه الأخيرة، وبينما الرياح العاصفة تستعد لأن تمحو سيرته واسمه ورسمه وفرسه، قرر أن يوقِف العالم ليشهد لحظة موته، تلك التي لا يذكر التاريخ ظروفها بشكل مؤكد، هل كانت لمرض شديد أصابه، أم بسبب أفعى لسعته وهو في القيلولة فسرى السم في عروقه.
كل هذا ليس ذا بال، المهم هو القصيدة التي قالها والتي نرددها حتى اليوم، حين نتحدث عن يوميات الموت، عن رثاء الذات، عن المشاعر المتضاربة والمتداخلة قبل اللحظة الأخيرة:
تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد
سوى السيف والرمح الرديني باكيا
وأشـقرَ خنديداً يجـرُّ عِنانه
إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا
لا أحد في هذا المشهد المظلم، سوى رجل وحيد مسكين يصارع الموت، وحصانه بجواره يبحث عن السقيا، ليس مهماً العالم بما فيه، ليس مهماً الحروب ولا صراعات الملوك، ليس المهم العرب ولا العجم، ليس مهماً السارق ولا المسروق، فكل ما يهم هو هذه اللحظة فحسب.
في قصيدة أخرى، يتجاوز عنترة الوصف التأريخي المعتاد لموت الملك زهير بن جذيمة، ويحوله إلى فوضى كونية تتهاوى فيها النجوم ويخسف القمر، لهول الأمر فيقول:
خُسف البدر حين كان تماماً
وخفى نورهُ فصار ظلاما
ودراري النجوم غارت وغابت
وضياء الآفاق فصار قتاما
حين قالوا زهير ولى قتيلاً
خيّم الحزن عندنا وأقاما
يحدث الخسوف لأمر جلل، لكن لن يلتفت إلى دلالته إلا شاعر لا يشبه من حوله، رأى في الموت شيئاً آخر، أبعد من انقطاع النفس، وأكثر من رحيل ملك، فقرر أن يكتب يوميات الكون الذي فقد عزيزاً فاختبأ قمره فرقاً وحزناً.
يحفظ الجميع معلقة امرؤ القيس، يعرفون مأساة الملك الضليل، لكنهم يتوقفون عند يوميات الموت، حين رأى قبر امرأة في سفح جبل عسيب الذي مات عنده، فأنشد يقول:
أجارَتَنا إنَّ الخُطُوبَ تَنوبُ
وإني مُقِيمٌ ما أقامَ عَسِيبُ
أجارَتَنا إنّا غَرِيبَانِ هَهُنَا
وكُلُّ غَرِيبٍ للغَريبِ نَسيبُ
لم يرو ما حدث من قبل أو من بعد، بل وقف منشداً يوميات روحه التي أنهكتها الأحداث الثقال، لم يكتب تاريخ الموتى، بل كتب يوميات أرواحهم، لأنه يعرف بالسليقة أن التاريخ الرسمي يكتبه المنتصرون، والتاريخ السري يكتبه المهزومون، أما تاريخ المشاعر فيكتبه الشعراء وحدهم.
لا يتوقف التاريخ بوجهيه ـ الرسمي والسري ـ ليلتقط اليوميات البسيطة، فالناس مجرد أرقام، والأيام مجرد روزنامة على الحائط، والضحك والبكاء والحزن والفرح والغضب والاستسلام والانكسار كلها مجرد تفاصيل فائضة عن الحاجة، لن تضيف شيئاً للحكاية الرئيسة.
الشعر فقط يفعل ذلك، وحده من يستطيع أن يدوّن لنا يوميات الدماء التي تسيل من الجرحى ورحلة الرصاص في جثث القتلى والدموع المتحجرة على وجنات الثكلى، أن يؤرخ لمن يلفظون أنفاسهم دون أن ينتبه لهم أحد، أن يسجل اللحظات المنسية، الالتفاتات المبتورة، النظرات المكسورة، أن يسرد حكاية من يعبرون طريق الدبابات وعيونهم معلقة بسحابة حبلى في السماء، أن يصاحب من ينامون فوق سطح البيت المتهدم كل يوم في انتظار صاعقة تنهي العالم، وحده سلوان من لا يريد أن يتذكرهم أحد.
هنا يتجلى الدور الحقيقي للشعر الذي يعيد صياغة العالم، ليكتب سيرة جديدة له، قد لا تكون مطابقة لما نراه، لأن نظارات الشعر ترى ما لا نراه، قد لا يروي ما سمعناه، لأن أذناه تلتقطان ما لا نسمعه، قد يختلف عمّا سترويه الفنون الأخرى لأن له منطقه الخاص، هذا المنطق الذي جعل الشاعر التشيلي العظيم نيكانور بارا يرى الشعر في إعادة خلق أسماء الأشياء وهو يكتبها:
إلى عُشاق الآداب الرفيعة
أُزجي أفضل أُمنياتي
سأُغيِّر أسماء بضعة أشياء.
موقفي هو هذا:
الشاعرُ لا يفي بكلمته
إذا لم يُغيِّر أسماء الأشياء.
لأي سبب يجب للشمس
أن تظلّ تُدعى الشمس؟
أَطلُبُ أن تُسمّى ميسيفوس
صاحبُ حذاء الأربعين فرسخا!
فردتا حذائي تشبهان تابوتين؟
اعلموا أنه من اليوم فصاعداً
تُسمىّ الأحذية توابيت.
أَبلِغوا، ودوِّنوا، وعمّموا
أن الأحذية قد غيرت اسمها:
منذ الآن تُسمىّ توابيت.
حسناً، الليل طويلٌ
وكل شخصٍ يُقدِّر نفسَه
يجب أن يكون له قاموسه الخاص
وقبل أن أنسى
الربُّ نفسه يجب تغيير اسمه
فليسمّه كل واحد كما يشاء
تلك مشكلة شخصية
الشعر إذن شديد الواقعية، شديد الآنية، شديد الخيال. يعيد تشكيل اللحظة كما يتراءى له، لكنه يحافظ عليها، يكتب يوميات العالم لكن من وجهة نظره هو.
هذا يعني أننا يجب ألا نشغل بالنا بإشكالية ما زالت تشغل بال الكثيرين منذ أكثر من ثلاثة عقود؛ زمن الشعر أم زمن الرواية؟ إجابتي الشخصية لا يحسمها حجم المبيعات ولا الترويج ولا مقولات النقاد. إجابتي هي أن الشعر هو الزمن ذاته، الذي تدور حوله وفيه الفنون الأخرى، هو ذلك السائل النابض بالحياة منذ بدء الخليقة وحتى اليوم، منه تمتح الرواية والقصة والمسرح والسيناريو والسينما والأنيمي والغرافيك، منه تسري الحياة في جسد الحياة، منه يأخذ التاريخ هيئته الحقيقية، لا تلك المزيفة التي نقشها المنتصرون ولا تلك البكائية التي رسمها المنكسرون.
الشعر هو الزمن.. هو الماضي والمستقبل.. هو اللحظة الآنية بما يدور فيها، مما نراه وما لا نراه، ما نحسه وما لا نشعر به، أقول ذلك كشاعر مشغول بالزمن، هو محور دواويني الثلاثة الأخيرة، أسميت ديواني الأخير “فوات الأوان” لأن الزمن هو سؤال قصائدي، قسمته إلى “قبل” و”بعد”، بحثاً عن “الأوان”، فوجدتني عالقاً في اللحظة الآنية وأسئلتها ووعدها ووعيدها.
أكتب الشعر والرواية وأعرف ما يفعله كلامها في كاتبه وقارئه، الرواية قد تكون سيرة العالم بمعناه الشامل، لكن الشعر هو سيرة الشاعر، وبالتالي سيرة كل إنسان على حدة، الرواية قد تكون لعبة البازل، لكن الشعر هو سيرة كل قطعة في هذه اللعبة، منذ خُلقت ورحلتها من يد إلى يد، الرواية تروي سيرة الماضي، القريب أو البعيد، لكن الشعر عن الحاضر، عمّا يشعر به الشاعر لحظة الكتابة، ولهذا سيظل “الشعر كتاب الإنسانية” وديوانها، وليس ديوان العرب فقط كما قال عمر بن الخطاب، الذي رأى فيه أنه يحفظ أخبارهم وحروبهم وسيرهم، وفيه دفاع عن أحْسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم.
لكن هذا الديوان، تطور دوره مع تطور دور الشعر ومفهومه، تغيرت طريقة الطرح لتناسب العصر وإن كان ما زال محافظا في جزء منه على دوره القديم، يمكنك الآن أن تعيد قراءة التاريخ الفلسطيني من خلال شعر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغسان زقطان.. يمكنك أن تعرف ما حدث في المأساة العراقية في العقود الأربعة الأخيرة من خلال قصائد شعرائها، يمكنك أن تقرأ تاريخ الثورة السورية من خلال ملاحم شعرائها. لكن لن يخبروك فقط ـ كما كان يفعل أجدادهم ـ عن أخبار الحرب وقتلاها، لكن سيسردون لك هزائمهم اليومية، وهم يخوضون البحر هربا من الموت إلى الموت، سيحكون لك شعراً كيف صادقوا الموت وأصوات القنابل والبراميل المتفجرة، حتى كأنها لم تعد تهز فيهم شعرة، سيسمعونك شعراً يومياتهم بين الجثث والبيوت المتهدمة ودفن الموتى وأزيز الرصاص بحثاً عن الطعام، وهرباً من الردى.
إذا كانت الرواية أو الفيلم أو المسرحية ستحكي قصة شخص واحد، فإن القصيدة ستحكي قصة كل شخص مر بهذا المأساة، لأنها ستتحدث عن حزنه، عن يأسه، عن خوفه، عن غضبه، عن انفجاره عن موته، فالحكايات تختلف لكن المشاعر واحدة، كل من يقرأ القصيدة سيقرأ معاناته فيها.
ما زال الشعر ـ بهذا المعنى ـ ديواناً للعرب، لأنه ما زال يروي أخبارهم ومآسيهم الممتدة، من العراق إلى فلسطين إلى سوريا إلى اليمن، إلى ليبيا إلى السودان.. إلى غيرها من بلاد تطلب النجاة بلا جدوى، ما زالت جليلة بنت مرة تنشد عن جساس، وكليب، حتى وإن تغيرت الحرب وأكل الطالح والصالح فيها بعضهما.
حين أعود إلى دواويني التسعة، وأضعها بجوار بعضها، أرى أيامي تنتصب أمامي كالجريمة، في هذه القصيدة ضحكت، وفي هذه بكيت، وفي تلك صرخت، أرى القصائد يوميات عمري، كأنها مذكراتي التي كتبتها شعراً، لست في حاجة إلى كتابة يومياتي إذن، لن أسرد سيرتي الذاتية في كتاب.. ففي هذه القصائد رويت كل شيء.
حين أنظر إلى دواوين الشعراء في أي مكتبة، أرى العالم يتحرك أمامي، أرى أيامه تتبدل، تسيل منها أيام شعرائها، فأرى التاريخ الحقيقي والسري والذي لم يكتب، والذي أعيد كتابته، والذي حذفوه، والذي أضيف.. كل شيء هنا.. أرى أمامي التاريخ كما يجب أن يروى.
الشعر هو ابن اللحظة، هو تلك الفلاشات المتبقية من أيامنا التي تذوي بانتظام، الشعر هو يوميات العالم.
شاعر من مصر مقيم في إمارات