سماء عامرة بالنجوم في صيف لا ينتهي

الخميس 2016/09/01
تخطيط: فادي يازجي

منذ أكثر من عام ونحن نتفكر في «الجديد» بصيغة مبتكرة للاحتفاء بالطفولة. مر وقت ومن ثم اهتدينا إلى الصيغة الأبسط والأكثر عفوية وسلاسة أيضا؛ أن نسال الكاتبات والكتاب تدوين الواقعة الطفولية الأبقى والأكثر تأثيرا في حواسهم وأفكارهم وخيالاتهم المبكرة، بحيث ظلت تلازمهم مهما ابتعد الزمن بها.

لم يكن القصد أن يدونوا فقط ما وقع لهم شخصيا من حادث سعيد، أو مؤلم، أو عجيب، أو مؤثر على نحو مائز، ولكن ما ربما يكون قد عرض لشخص قريب منهم أو هو حدث كانوا شهودا عليه، فسكن ذاكراتهم وترك أثره العميق في نفوسهم.

على أن السفر بحملة الأقلام جهة الطفولة لم يكن وردياً دائما، فقد مر وقت، ونحن نحرض كتاب «الجديد» على الخوض في هذا المضمار، من دونما شروط، غير تلك التي تتطلبها المساحة وتفترضها صيغة النشر، وأولها عدد الكلمات.

وكما في كل مرة يكون هناك ملف في «الجديد» وكتاب مدعوون للمشاركة، لابد من عناء ما يتخلله شرح وتعليل وتشجيع، وكثير من الصبر، على رغم الحماسة الكبيرة والاستثنائية التي طالما أبداها حملة الأقلام العرب لـ«الجديد» وملفاتها على مدار عشرين شهراً من الصدور. وهو ما يجعلنا، باستمرار، فخورين بتلك النخبة من الكاتبات والكتاب الذين يتحلقون من حول «الجديد» ويساهمون دوريا في ملفاتها الفكرية والأدبية والفنية، ويثرون صفحاتها بثمار إبداعاتهم وأفكارهم.

والآن، ها نحن مع عدد يضم مقالات ونصوص طفولية لكتاب تتراوح أعمارهم بين سني العشرينات وسني الثمانينات. وفي ظني أن البعض منهم كابد وعانى حتى يتمكن من استعادة شرارة الطفولة وضوءها وظلالها، وصولا إلى تلك الواقعة التي توارت في مكان ما من ذاكراتهم. فليس الطفلي والطفولي مما هو متيسر وحاضر طوع شخص صار بعيدا عنه في هيئة رجل نضج، أو امرأة صارت سيدة ولها اعتبار اجتماعي وصورة رصينة، أين منها ذلك الكائن الطفولي الحر، البريء، اللاعب، والمحتجب المتواري وراء سنوات مما اعتبرناه خبرات وتجارب وأعمالاً أفضت بنا إلى هيئاتنا التي نحن عليها اليوم؟

ولكن هل نحن ما كنا نريد أن نكون يوم كنا أطفالاً؟ هل نحن بعض أمنيات ذلك الطفل المتواري في مكان ما من حياتنا، حزينا، محبطاً أو مخاصماً؟، هل نحن الصورة التي تطلع إليها ذلك الكائن، ولأجلها التمعت عيناه بالبريق، وأشتعل خياله بالصور، وعمرت نفسه بالأمنيات وتوهجت روحه بغوامض الشعور، أم نحن شيء آخر، صور أخرى لم تخطر على باله، ولا كانت في حسابه، أو حلمه أو تطلعه، وما نحن إلا الممكن الباهت الذي كان من المستحيل أن يخطر في باله، أو يقبل به صورة لما يريد أن يكون.

«كان ما سوف يكون». ولم يعد بالإمكان العبث بالصورة، وتبديل المصير. نحن في غد الأمس، الحاضر الذي كان مستقبلاً. والآن في آلة الزمن، نغامر جهة كوكب الطفولة، للقاء ذلك الكائن الذي تركناه هناك.

***

هناك في هذه الأوراق الطفولية ما هو مضحك وما هو مدهش أو غريب، وما هو محبط، وما هو قاس ومؤلم، وفي مجموعه ما يمكن أن يقودنا لنتعرف على كاتباتنا وكتابنا على نحو أفضل، لكونهم بذلوا جهدا في الكشف عن كائناتهم الطفولية، التي هي بالضرورة الأرومة التي تحدروا منها ليكونوا أولئك المنظورين في فرادة شخصياتهم أدباء وفنانين، ولكن هذه الأوراق، هي أيضاً اختبار لقدرة هؤلاء على الكشف عن أنفسهم، بحثاً فيها واعترافا بها. اختبار للجرأة والحرية والأمانة، واختبار وقراءة في المسافة التي قطعوها بين الأزمنة، والطاقة التي بذلوها في مواجهاتهم الفكرية والشعورية، والمواقف التي اتخذوها من أنفسهم ومن عالمهم، ومن ثم تامل في الخيارات التي اتخذوها والسبل التي سلكوها عندما وجدوا أنفسهم في مفترقات مصيرية.

***

ليس سهلا، ولا يسيراً أن نسافر في جهة طالما أشحنا النظر عنها، وتجنبنا ما أمكننا النظر في إشاراتها وعلاماتها حتى لا نسلك الطريق جهة غواياتها الجميلة والصعبة. جهة كلما اقتربنا منها آثرنا أن نبتعد حتى لا نجد أنفسنا في صدام مع اعتراضاتها المشاكسة على ما يسوؤها فينا. إنها أعماقنا الطفلة، كائنات ما قبل القناع الاجتماعي.

***

ولكن أوليست تلك هي المنطقة التي يعيش فيها المبدعون؟ أرض الطفولة؟ أوليس الحلم وأجنحة الخيال، والاستعداد لسلوك دروب لم تطرق، والنهوض إلى المغامرة، أياً تكن النتائج، كما كنا نفعل عندما نتسلق جبلا، أو ننزل وادياً بعيداً، ومن ثم نذهب مع النهر وراء الضفة الأخرى، في تمرين للعين على المفاجأة، ولأجنحة المخيلة على سفر أبعد ينتظرنا، سفر في الأرض وسفر في المخيلة، بل وربما بالنسبة إلى بعضنا، تمرين مبكر على مصائر أليمة.

***

كم بقي منا، وهل إن أيدينا التي كبرت واخشوشنت، وكبرت وصارت حاذقة في ما تؤديه من الأعمال، ماتزال، بينما هي تمسك الصور القديمة لأولئك الأطفال، تتذكر بحواسها تلك الأيدي الصغيرة الطائشة والمترددة، الأيدي الغضة وهي تجرب أن تقبض على عالمها. هل كان جميعنا على استعداد للاحتفاظ بخيط ما، خيط خفي لم ينقطع مع ذلك الطفل؟

لطالما اعتبرت أن الأدب الباهت هو أدب أشخاص ضيعوا كائنهم الطفولي، وأن الأدب الكبير هو أدب أشخاص لم يغترب فيهم الطفل، بل لطالما امتلكوا قدراته في المشاكسة والشغب والغضب والتطرف والبراءة والدهشة والاستلقاء في العالم كما لو كان الوجود كله سماء عامرة بالنجوم في صيف لا ينتهي

لندن آب/اغسطس 2016

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.