هل‭ ‬تشهد‭ ‬فرنسا‭ ‬انتصار‭ ‬الرجعية

الثلاثاء 2016/11/01

في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬إنذار‭. ‬تحقيق‭ ‬حول‭ ‬الرجعيين‭ ‬الجدد‮»‬‭ ‬كان‭ ‬مؤرخ‭ ‬الأفكار‭ ‬دانيال‭ ‬ليندنبرغ‭ ‬قد‭ ‬لاحظ‭ ‬منذ‭ ‬أربع‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭ ‬بداية‭ ‬انتشار‭ ‬ثقافة‭ ‬‮«‬محافظة‭ ‬جديدة‮»‬‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬الفرنسي،‭ ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬والعبارة‭ ‬لا‭ ‬تني‭ ‬تتحرر‭ ‬وتتخلص‭ ‬من‭ ‬مخافة‭ ‬وصفها‭ ‬باليمينية‭ ‬المتطرفة،‭ ‬فلم‭ ‬تعد‭ ‬ترى‭ ‬حرجا‭ ‬في‭ ‬ترديد‭ ‬مقولات‭ ‬شيطنت‭ ‬جان‭ ‬ماري‭ ‬لوبان‭ ‬زعيم‭ ‬الجبهة‭ ‬الوطنية‭ ‬المتطرف‭ ‬ردحا‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬وجلبت‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬حقٍّ‭ ‬تهمَ‭ ‬العنصرية‭ ‬ومعاداة‭ ‬الأجانب‭.‬‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬لا‭ ‬تخص‭ ‬اليمينين‭ ‬وحدهم‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬عددا‭ ‬هامّا‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬والكتاب‭ ‬المنتمين‭ ‬إلى‭ ‬اليسار‭ ‬باتوا‭ ‬لا‭ ‬يتورعون‭ ‬هم‭ ‬أيضا‭ ‬عن‭ ‬تبني‭ ‬تلك‭ ‬المقولات‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬رفضهم‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ ‬للمجتمع‭ ‬المنفتح‭ ‬والمتساوي،‭ ‬ودفاعهم‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬حرب‭ ‬حضارات‭ ‬تضع‭ ‬الغرب‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الإسلام،‭ ‬ثم‭ ‬زاد‭ ‬الساسة‭ ‬في‭ ‬إذكاء‭ ‬جمرها‭ ‬لغايات‭ ‬انتخابية‭.

ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬أفرغت‭ ‬‮«‬‭ ‬الجمهورية‮»‬‭ ‬و»الأنوار‮»‬‭ ‬و»الأمة‮»‬‭ ‬و»العلمانية‮»‬‭ ‬من‭ ‬معانيها،‭ ‬لتتخذ‭ ‬شكل‭ ‬حجج‭ ‬مضللة‭ ‬يواجَه‭ ‬بها‭ ‬مواطنون‭ ‬آخرون،‭ ‬يراد‭ ‬لهم‭ ‬تارةً‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬من‭ ‬درجة‭ ‬ثانية،‭ ‬وطورا‭ ‬الذوبان‭ ‬في‭ ‬الهوية‭ ‬الفرنسية‭. ‬وتحت‭ ‬ستار‭ ‬نقد‭ ‬الحداثة‭ ‬والمجتمع‭ ‬المنفتح‭ ‬متعدد‭ ‬الثقافات‭ ‬والإثنيات‭ ‬أكدت‭ ‬شخصيات‭ ‬ثقافية‭ ‬وسياسية‭ ‬عديدة‭ ‬أن‭ ‬أصلَ‭ ‬الداء‭ ‬وجودُ‭ ‬برابرة‭ ‬يتمنعون‭ ‬عن‭ ‬الانصهار‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬الفرنسي،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يصيب‭ ‬الجسد‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬تبعاته‭. ‬كذا‭ ‬تدهور‭ ‬المدرسة‭ ‬واللغة‭ ‬الفرنسية‭ ‬وهيبة‭ ‬الدولة‭ ‬ومؤسساتها‭ ‬وتراجع‭ ‬الجمهورية‭ ‬والعلمانية‭.‬

هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬يجد‭ ‬اليوم‭ ‬صداه‭ ‬لدى‭ ‬شرائح‭ ‬واسعة‭ ‬تعتقد‭ ‬اعتقادا‭ ‬راسخا‭ ‬أن‭ ‬تراجع‭ ‬مكانة‭ ‬فرنسا‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية،‭ ‬وهشاشة‭ ‬دفاعها‭ ‬أمام‭ ‬الهجمات‭ ‬الإرهابية،‭ ‬هما‭ ‬نتيجة‭ ‬ذلك‭ ‬الداء،‭ ‬وأن‭ ‬التخلص‭ ‬منه،‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى،‭ ‬سوف‭ ‬يعيد‭ ‬للبلاد‭ ‬موقعها‭ ‬وصورتها‭. ‬وليس‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ارتفاع‭ ‬رقم‭ ‬مبيعات‭ ‬الكتب‭ ‬ذات‭ ‬النزعة‭ ‬الرجعية،‭ ‬أي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تتوسل‭ ‬بخطاب‭ ‬شعبوي‭ ‬لتحقيق‭ ‬مرامها،‭ ‬إذ‭ ‬يبلغ‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يشهده‭ ‬عالم‭ ‬النشر‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قرن،‭ ‬فيما‭ ‬الكتب‭ ‬القيمة،‭ ‬ذات‭ ‬التحليل‭ ‬العميق‭ ‬الذي‭ ‬يضع‭ ‬الإصبع‭ ‬على‭ ‬مكمن‭ ‬الداء‭ ‬الحق،‭ ‬لا‭ ‬تلقى‭ ‬الإقبال‭ ‬إلا‭ ‬لمامًا،‭ ‬برغم‭ ‬مكانة‭ ‬أصحابها‭ ‬العلمية.

فالكتب‭ ‬الرائجة‭ ‬اليوم‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تستعيد‭ ‬شبح‭ ‬‮«‬التعويض‭ ‬الأكبر‮»‬‭ ‬حسب‭ ‬عبارة‭ ‬رونو‭ ‬كامو،‭ ‬وتنذر‭ ‬بقيام‭ ‬‮«‬عرابيا‮»‬‭ ‬Eurabie،‭ ‬أي‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬إسلامية‭ ‬تجتاح‭ ‬أوروبا‭ ‬المسيحية،‭ ‬وتكون‭ ‬خاضعة‭ ‬للشريعة،‭ ‬وأصحابها‭ ‬يرفضون‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الأمة‭ ‬الفرنسية‭ ‬بوتقة‭ ‬تلتقي‭ ‬داخلها‭ ‬مختلف‭ ‬الملل‭ ‬والأعراق،‭ ‬بل‭ ‬يريدونها‭ ‬مسيحية‭ ‬بيضاء‭ ‬أبد‭ ‬الدهر،‭ ‬نجد‭ ‬ذلك‭ ‬عند‭ ‬اليمين‭ ‬‮«‬غير‭ ‬المعقّد‮»‬‭ ‬ومثقفيه‭ ‬‮«‬العضويين‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬يقفون‭ ‬وقفة‭ ‬رجل‭ ‬واحد‭ ‬لرفض‭ ‬المساواة‭ ‬الحق‭ ‬بين‭ ‬سائر‭ ‬المواطنين‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬والتنديد‭ ‬بمن‭ ‬يعادي‭ ‬العنصرية‭.


دانيال ليدنبرغ وسوزان سيترون

هذا‭ ‬مثلا‭ ‬العنصري‭ ‬إريك‭ ‬زيمور‭ ‬يصرح‭ ‬على‭ ‬الملأ‭ ‬بأن‭ ‬الفرنسيين‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬أجنبية‭ ‬هم‭ ‬دون‭ ‬أهل‭ ‬البلاد‭ ‬الأصلاء،‭ ‬ويضيف‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يعتنق‭ ‬الجنسية‭ ‬الفرنسية‭ ‬لا‭ ‬يحق‭ ‬له‭ ‬تسمية‭ ‬أبنائه‭ ‬بغير‭ ‬أسماء‭ ‬فرنسية،‭ ‬مستندا‭ ‬عمدا‭ ‬إلى‭ ‬قانون‭ ‬وقع‭ ‬إلغاؤه‭ ‬منذ‭ ‬مدة‭. ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬ريشار‭ ‬ميّيه‭ ‬الذي‭ ‬تعجب‭ ‬كيف‭ ‬توكل‭ ‬مهمة‭ ‬الإصلاح‭ ‬في‭ ‬وزارتين‭ ‬كبريين‭ ‬أي‭ ‬وزارة‭ ‬الشغل‭ ‬ووزارة‭ ‬التربية‭ ‬لامرأتين‭ ‬عربيتين‭ ‬هما‭ ‬مريم‭ ‬الخمري‭ ‬ونجاة‭ ‬بلقاسم‭. ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬ساركوزي،‭ ‬مبتدع‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬اليمين‭ ‬غير‭ ‬المعقد‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬دعا‭ ‬مؤخرا‭ ‬كل‭ ‬معتنق‭ ‬للجنسية‭ ‬الفرنسية‭ ‬إلى‭ ‬الإعراب،‭ ‬بفخر‭ ‬واعتداد،‭ ‬عن‭ ‬أصوله‭ ‬‮«‬الغولية‮»‬‭.‬

بدأ‭ ‬ذلك‭ ‬الخطاب‭ ‬هامشيا‭ ‬ثم‭ ‬تحول‭ ‬تدريجيا‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬مركزي‭ ‬يوشك‭ ‬أن‭ ‬يحوز‭ ‬مقام‭ ‬الإيديولوجيا‭ ‬المهيمنة،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬أنه‭ ‬وجد‭ ‬في‭ ‬بوتين‭ ‬أخًا‭ ‬أكبر،‭ ‬يستأنس‭ ‬به‭ ‬استئناس‭ ‬المثقفين‭ ‬سابقا‭ ‬باليوتوبيا‭ ‬الشيوعية‭ ‬في‭ ‬موسكو،‭ ‬فزعيم‭ ‬الكرملين‭ ‬هو‭ ‬المرجع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬بديل‭ ‬عنه‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يحنّ‭ ‬إلى‭ ‬مجتمع‭ ‬استبدادي،‭ ‬ذكوري،‭ ‬يعتز‭ ‬بهويته‭ ‬دون‭ ‬عُقد،‭ ‬ويستند‭ ‬إلى‭ ‬صيغة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬حداثية‭ ‬لتحالف‭ ‬السيف‭ ‬ومرشّة‭ ‬الماء‭ ‬المقدس،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الظرف‭ ‬الذي‭ ‬يمر‭ ‬فيه‭ ‬المجتمع‭ ‬الفرنسي،‭ ‬وكذا‭ ‬الأوروبي،‭ ‬بتأزم‭ ‬المثل‭ ‬الديمقراطية‭. ‬ومن‭ ‬ثَمّ‭ ‬لا‭ ‬نستغرب‭ ‬تلك‭ ‬الأصوات‭ ‬الداعية‭ ‬إلى‭ ‬استعادة‭ ‬صفاء‭ ‬عرقي‭ ‬مؤسطر،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬في‭ ‬حديث‭ ‬ساركوزي‭ ‬عن‭ ‬أصول‭ ‬فرنسا‭ ‬الغولية،‭ ‬الذي‭ ‬كشف‭ ‬عن‭ ‬جهله‭ ‬بتاريخ‭ ‬فرنسا،‭ ‬تاريخ‭ ‬يراد‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬‮«‬سردية‭ ‬قومية‮»‬‭ ‬نقية‭ ‬لم‭ ‬تشبها‭ ‬شائبة‭. ‬وقد‭ ‬تصدى‭ ‬له‭ ‬مؤرخون‭ ‬كبار‭ ‬مثل‭ ‬دومينيك‭ ‬غارسيا‭ ‬المتخصص‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الغول‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الرومان،‭ ‬وعالم‭ ‬الآثار‭ ‬جان‭ ‬لويس‭ ‬برونو‭ ‬المتخصص‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬الغولية،‭ ‬والمؤرخة‭ ‬سوزان‭ ‬سيترون‭ ‬ليفضحوا‭ ‬دجله،‭ ‬ويبينوا‭ ‬أن‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬أسلافنا‭ ‬الغول‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تفرض‭ ‬على‭ ‬التلاميذ‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬المستعمرات‭ ‬القديمة،‭ ‬وجزر‭ ‬البحر‭ ‬الكراييبي‭ ‬والمحيط‭ ‬الهندي،‭ ‬لم‭ ‬تظهر‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬للتأكيد‭ ‬على‭ ‬عراقة‭ ‬فرنسا‭ ‬مقارنة‭ ‬بإيطاليا‭ ‬في‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التفاخر‭ ‬بين‭ ‬الملوك‭ ‬والأمم،‭ ‬ويثبتوا‭ ‬أنها‭ ‬سردية‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬السند‭ ‬العلمي‭.‬

أي‭ ‬أن‭ ‬الشعب‭ ‬الغولي‭ ‬في‭ ‬رأي‭ ‬المتخصصين‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬له،‭ ‬وبلاد‭ ‬الغول‭ ‬Gaule‭ ‬‭-‬غاليا‭ ‬Gallia‭ ‬باللاتينية‭-‬‭ ‬هي‭ ‬أرض‭ ‬كانت‭ ‬تعيش‭ ‬فيها‭ ‬قبائل‭ ‬مستقلة‭ ‬عن‭ ‬بعضها‭ ‬بعضا،‭ ‬ذات‭ ‬أصول‭ ‬مختلفة‭ ‬سلتية‭ ‬وجرمانية‭ ‬وسواهما،‭ ‬تشترك‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الآلهة‭ ‬وبعض‭ ‬العادات،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ثمة‭ ‬ما‭ ‬يوحدها،‭ ‬وكان‭ ‬الرومان‭ ‬يسمون‭ ‬تلك‭ ‬القبائل‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬ناحيتي‭ ‬جبال‭ ‬الألب‭ ‬غالي‭ ‬Galli،‭ ‬ويوليوس‭ ‬قيصر‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬خلط‭ ‬بينها‭ ‬عند‭ ‬حربه‭ ‬على‭ ‬أهاليها‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬الأول‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بدأت‭ ‬تهدد‭ ‬إمبراطوريته،‭ ‬ليضفي‭ ‬على‭ ‬غزوته‭ ‬بعدا‭ ‬ملحميّا‭.


جان لوي برونو ودومنيك غارسيا

ثم‭ ‬اختفت‭ ‬صورة‭ ‬الغول‭ ‬لمدة‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬قرنا،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬ذكر‭ ‬لها‭ ‬البتة‭ ‬في‭ ‬مدونات‭ ‬مؤرخي‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى،‭ ‬لتظهر‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬إبان‭ ‬عصر‭ ‬النهضة،‭ ‬ولكنها‭ ‬لم‭ ‬تأخذ‭ ‬شكلها‭ ‬المتداول‭ ‬إلا‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬المؤرخ‭ ‬أميدي‭ ‬تييري‭ ‬الذي‭ ‬أخرج‭ ‬من‭ ‬عمق‭ ‬التاريخ‭ ‬شخصا‭ ‬مجهولا‭ ‬أسرته‭ ‬جيوش‭ ‬قيصر‭ ‬يدعى‭ ‬فرسانجيتوريكس‭ ‬ليصوره‭ ‬كـ‭ ‬‮«‬حامي‭ ‬بلاد‭ ‬الغول‮»‬،‭ ‬ويتخذه‭ ‬نابليون‭ ‬الثالث‭ ‬رمزا‭ ‬للمقاومة‭ ‬بعد‭ ‬هزيمته‭ ‬عام‭ ‬1870‭ ‬أمام‭ ‬القوات‭ ‬البروسية‭ ‬في‭ ‬موقعة‭ ‬سُدان،‭ ‬ويفخر‭ ‬بانتسابه‭ ‬إليه‭ ‬كسلف‭ ‬بعيد،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬ملوك‭ ‬الإفرنج‭ ‬من‭ ‬قبله‭ ‬ينسبون‭ ‬أميرهم‭ ‬فرانسيون‭ ‬إلى‭ ‬طروادة‭.

وعند‭ ‬قيام‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الثانية‭ ‬تم‭ ‬إدراج‭ ‬فرسينجيتوريكس‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬المدرسية،‭ ‬ثم‭ ‬زاد‭ ‬مؤسسو‭ ‬الجمهورية‭ ‬الثالثة‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬حضوره‭ ‬تاريخيا‭ ‬مع‭ ‬أعلام‭ ‬آخرين‭ ‬كشارلمان‭ ‬وجان‭ ‬دارك،‭ ‬كي‭ ‬يوهموا‭ ‬بأن‭ ‬الوحدة‭ ‬الوطنية‭ ‬قديمة‭ ‬قدم‭ ‬التاريخ‭. ‬وكانت‭ ‬مقولة‭ ‬‮«‬أسلافنا‭ ‬الغول‮»‬‭ ‬قد‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬موضة‭ ‬عند‭ ‬اندلاع‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬حيث‭ ‬انقسم‭ ‬الفرنسيون‭ ‬إلى‭ ‬شقين‭: ‬شق‭ ‬النبلاء‭ ‬الذي‭ ‬يعلن‭ ‬انتسابه‭ ‬للإفرنج،‭ ‬وشق‭ ‬الشعب‭ ‬المنتصر‭ ‬الذي‭ ‬يفخر‭ ‬بانتمائه‭ ‬إلى‭ ‬الغول‭. ‬ولم‭ ‬ينهض‭ ‬المؤرخون‭ ‬للطعن‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السردية‭ ‬المختلقة‭ ‬إلا‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

إن‭ ‬الهويات‭ ‬والقوميات،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬جان‭ ‬لويس‭ ‬برونو،‭ ‬ليست‭ ‬عناصر‭ ‬جامدة،‭ ‬بل‭ ‬مبنية‭ ‬لبنة‭ ‬لبنة،‭ ‬والذين‭ ‬نطلق‭ ‬عليهم‭ ‬غوليين‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬شعوب‭ ‬نازحة‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬شمال‭ ‬أوروبا‭ ‬كالسلت،‭ ‬ومن‭ ‬وسطها‭ ‬كالجرمان،‭ ‬ومن‭ ‬جنوبها‭ ‬كالرومان‭ ‬والإغريق‭ ‬والإيبريين‭. ‬فلا‭ ‬وجود‭ ‬إذن‭ ‬لجماعة‭ ‬تقبل‭ ‬الانصهار‭ ‬والتماثل،‭ ‬بل‭ ‬ثمة‭ ‬أناس‭ ‬يبنون‭ ‬معا‭ ‬هوية‭ ‬تتجدد‭ ‬على‭ ‬الدوام‭. ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المرء‭ ‬فرنسيا‭ ‬عام‭ ‬2016‭ ‬لا‭ ‬يفيد‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬عام‭ ‬1962‭.‬

في‭ ‬كتابها‭ ‬‮«‬الأسطورة‭ ‬الوطنية‮»‬‭ ‬تقول‭ ‬سوزان‭ ‬سيترون‭: ‬‮«‬المشكلة‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬أخفينا‭ ‬سردية‭ ‬تاريخنا‭ ‬الحقيقية،‭ ‬وهي‭ ‬ذات‭ ‬ثقافات‭ ‬وإثنيات‭ ‬متعددة‭.‬‮»‬‭ ‬وساركوزي،‭ ‬إذ‭ ‬يلوذ‭ ‬بهذه‭ ‬السردية،‭ ‬إنما‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬للجاليات‭ ‬الأجنبية،‭ ‬الإسلامية‭ ‬بخاصة،‭ ‬إما‭ ‬أن‭ ‬تكونوا‭ ‬متماثلين‭ ‬معنا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وإلا‭ ‬فلترحلوا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أكده‭ ‬زيمور‭ ‬بأسلوبه‭ ‬الفظ‭ ‬الذي‭ ‬يشي‭ ‬بحقد‭ ‬متأصل‭: ‬‮«‬على‭ ‬المسلمين‭ ‬أن‭ ‬يختاروا،‭ ‬إما‭ ‬الإسلام‭ ‬أو‭ ‬الجمهورية‭.‬‮»‬‭ ‬وما‭ ‬ذاك‭ ‬إلا‭ ‬خطاب‭ ‬المحافظين‭ ‬الجدد‭ ‬الذين‭ ‬قد‭ ‬يعلنون‭ ‬هزيمة‭ ‬الأنوار‭ ‬ويقودون‭ ‬فرنسا‭ ‬إلى‭ ‬درك‭ ‬فكري‭ ‬وسياسي‭ ‬وأخلاقي‭ ‬وضيع،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تنهض‭ ‬النخبة‭ ‬الثقافية‭ ‬النيرة‭ ‬لإعادة‭ ‬الأمور‭ ‬إلى‭ ‬نصابها‭. ‬وما‭ ‬ذلك،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬الحرجة،‭ ‬بالأمر‭ ‬اليسير‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.