لاعاصم إلا الثقافة

الأربعاء 2015/04/01

أسئلة كثيرة فجّرتها الوقائع الدامية في العالم العربي على مدار السنوات الأربع المنصرمة، وقد شهدت مدنٌ، طالما كانت مراكز ثقافية وحضارية صانعة للتاريخ، وقائع تراجيدية، في معارك وصفت بأنها تجسيد عنفي للصراع على ‭"‬صورة المستقبل‭".‬ بعض تلك الأسئلة كان فكريا‭.‬ لكن الرياح التي عصفت بالمراكب العربية خلخلت أكثر ما خلخلت مراكب الثقافة، ومزقت أشرعتها‭.‬

هل الثقافة العربية بحر متصل، أم هي جزر مُنفصلةٌ تسبح في بحر متصل؟

أيا يكن الجواب، فإننا نرى أن لا مناص، أبداً، أمام أهل الفكر والإبداع العرب، في أقاليمهم المختلفة، من أن يبنوا جسوراً تصلُ ما بين ‭"‬جزرهم السعيدة‭"‬ لعلهم يتمكنون من أن يؤسسوا، مجتمعين، فلكا مشتركا يواجهون من على تخومه ما احتشد من مراكب الأعداء، فيردُّونها عن شواطئ بحرهم المُتلظِّي بأمواج من نار‭.‬

***

محطات خطيرة أضاعت الثقافة العربية معها اتجاه بوصلتها، ولم تتمكن من أن تعبِّر عن الوجدان والتطلعات العربيين، كان أخطرها ما ردده الإيرانيون، مؤخراً، من فحش عنصري يُغذِي هجمتهم القومية غير المسبوقة على دنيا العرب‭.‬

لم يصدر بيان ثقافي واحد بالعربية يرد على الإيرانيين إهانتهم البليغة للعرب حينَ أعلنوا بغدادَ عاصمة للإمبراطورية الإيرانية الجديدة‭.‬ الإيرانيون قالوها، بملء صوتهم، على لسان علي يونسي مستشار رئيسهم حسن روحاني ووزير استخبارات الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي‭:‬ ‭"‬بغداد عاصمة الإمبراطورية الإيرانية‭".‬

ما خلا بعض مقالات مستنكرة، هنا وهناك في صحف عربية، لم نسمع ولم نر حركة تصدر عن الجسد العربي المصاب عميقاً في كرامته بالسهم العنصري المسموم‭.‬

إن حالا يبلغ معها هوان قوم ما بلغه الهوان العربي، إنما تقتضي ‭"‬صحوة‭"‬ و‭"‬نهضة من سكرة‭"‬، فليس حاضر العرب، وحده هو المهدد، وإنما وجودهم، أحرارا، تحت شمس العصر، وكينونتهم ومستقبلهم كأمة‭.‬

***

ها هم العرب يقفون عاجزين، لا عن نجدة بعضهم بعضاً فقط، وقد فتك بهم الفساد والطغيان، وهانت عليهم أرواح أجمل شبابهم وأنبل من نهض منهم مطالباً بالحرية والكرامة، بل إنهم باتوا مشلولين مكبلين بأغلال مرئية وغير مرئية إزاء مشهد إرثهم الحضاري نفسه وقد راح يتحطم ويتلاشى، أمام أنظارهم المشدوهة، سرقة وتخريباً وتدميراً؛ في بغداد والحضر والموصل ونمرود‭.‬ وفي حلب وحمص وإدلب ومعرة النعمان، وصولا إلى صنعاء وغيرها من الحواضر التي صنعت التاريخ وقدمت للإنسانية أبهى معارفها؛ فإذا بها اليوم لا تنجو من طاغية، ولا من غاز، ولا من خارج على حاضرها من جحور الظلام وفي يده الفأس‭.‬

قُصفت من الجو بالطائرات، ونسفت من الأرض بالديناميت‭.‬ فكان للحكام الطغاة من أدوار ما لأمراء الحرب من أدوار في إبادة الوثيقة التاريخية بعد إبادة أصحابها‭.‬

إنها جريمة حرب وجرائم ضد الإنسانية، كما تقول إيرينا بوكوفا، في حوارها مع ‭"‬الجديد‭"‬ في إطار ملف ‭"‬إعدام التاريخ‭"‬ المنشور في هذا العدد‭.‬

***

ولكن ماذا يقول المثقفون العرب بصدد ما آلت إليه حال الأمة، وهم ينظرون عالمهم يحترق، ومدنهم تتهاوى مع حضاراتها تحت أقدام التتار الجدد لترفرف على حطامها راياتهم، وهم‭:‬ ‭"‬العدو القومي‭"‬، و‭"‬الطاغية المستبد‭"‬، و‭"‬مريض الوهم‭"‬ المتكلم باسم السماء، وقد كتب اسم الله بنصل السكين على أجساد أطفال العراق والشام‭.‬

بأي لغة يمكن لحملة الأقلام وصف ما يرون، وكيف لهم أن يشخِّصوا الداء حتى يمكنهم أن يبتكروا الدواء الشافي، وقد انتشر طاعون التعصب والجهل والعته والتطرف، وبات العقل الرحيم نعمة نادرة‭.‬

على من يقصُّ المثقف رؤياه؟ من هم أعداؤه؟ ومن هم أصدقاؤه؟ ومن هم الشركاء؟ في عالم لم يعد يمكن للمرء أن يعيش فيه منعزلا، ومع ذلك فهو عالم بات أكثر وحشة وتوحشاً‭.‬

***

إن المرعب اليوم، أكثر من أي يوم مضى، أن القوى العظمى المهيمنة على الجغرافيات والأسواق ومصادر الطاقة والمصادر الطبيعية ومعها البشر بوصفهم قطعان الأسواق، هذه القوى التي امتلكت أسباب القوة عبر أسباب سيطرتها على منظومة المعرفة الإنسانية، باتت أقل اعترافا بما تمليه الأخلاق على البشر‭.‬

أليس جديراً، إذن، بالمثقفين العرب الراغبين في الاتكاء على ‭"‬عدالة الغرب‭"‬ أن يكفوا عن السباحة في بحار الأوهام‭.‬ فليس ثمة عدالة يمكن أن تمنح لطالبي العدالة، ما لم ينتزعها هؤلاء بكفاحهم الفكري، والمعرفي، والأخلاقي، تماماً كما أمكن للثقافة الغربية أن تبلور شخصيتها كثقافة حرة، عبر قرون من كفاح مفكريها الأحرار الشجعان الذين انتصروا للعقل والإنسان في العصور الوسطى، وصولا إلى عصر المفكرين والمبدعين التنويريين من أمثال جان جاك روسو، وكانط، وفولتير، ومونتسكيو‭.‬

فليتذكر المثقفون العرب المثال الذي شكله دانتي في مطلع القرن الرابع عشر، في مواجهته الجريئة لباباوات روما الطغاة، انتصاراً للحق والمدنية، وقد دفع الثمن نفيا من مدينته فلورنسا، وعاش حياة المنفيين في مدن بعيدة عن مسقط الرأس‭.‬

مثل هذا النموذج الأخلاقي للمثقف والمفكر هو ما ينبغي أن ننشغل به، وينشغل به المثقف العربي، وليس بالطبعات الأحدث من المفكرين والفلاسفة الأوروبيين الذين عاشوا وأنجزوا أعمالهم في ذروة الرخاء والحرية‭.‬

ولو كان ثمة مثال عربي نتفكر فيه، اليوم، لنستخلص النموذج ودلالته، فلربما يكون أقرب الأمثلة من لحظة اشتباك المثقف مع الطاغية هو قاريء التنويريين الفرنسيين الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، شهيد الحرية وصاحب ‭"‬طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد‭"‬، الذي قضى اغتيالا في منفاه القاهري على أيدي أعوان السلطان العثماني‭.‬

***

ما من سؤال فكري لا يصدر عن قلق، فكيف بأسئلة مثقفين مطحونين ينتمون إلى عالم عربي يسوده الاضطراب والفوضى والدم، ويعصف به الاستبداد والرجعية، ويحيط به خصمان لدودان هما ‭"‬أهل الكهف‭"‬ و‭"‬الغريم الأجنبي‭"‬؛ يتهددان مدنه وحضارته بالحريق والدمار، ويسلطان على عواصمه العظيمة؛ بغداد ودمشق وبيروت والقاهرة وصنعاء وغيرها أبالسة الأرض وقتلة التاريخ‭.‬ بينما أبناء الشرق واحد يتكلم باسم الأرض والإنسان، والآخر باسم السماء‭.‬ واحد يحزّ الرؤوس بالسكاكين ليفوز بـ‭"‬الحور العين‭"‬ في عالم آخر، والآخر يدافع عن وجوده الأرضي ليحمي نسله من الفناء‭.‬

ولو استعدنا صور الميثولوجيا وأيقونات التاريخ، فلن تتراءى لنا المعركة الحضارية للعربي، في النهاية، سوى معركة ذات انشقت عن ذاتها، ثم انقلبت صورة أليمة لشقيقين مدميّين، اختصما طويلا، وما برحا يقتتلان، على ‭"‬صورة المستقبل‭".‬

إنه المثال القابيلي الهابيلي، مرة أخرى، يحتل الشخصية وحاضرها، فبأي لغة نتكلم عن الغد، نحن عرب اليوم، وعن أي ثقافة نتكلم؟

***

الوقائع اليومية تقول إن العرب، اليوم، يواجهون وللمرة الأولى في تاريخهم، بعد خروجهم من شبه جزيرتهم، وترسيخهم للمشاريع الحضرية، جميع الاستحقاقات التاريخية والمجتمعية والسياسية، في آن واحد‭.‬ وهم، أخيرا، أمام انهيار دراماتيكي لوهم مشروع الإسلام السياسي، بعد انكشاف الغطاء المخملي، تماما، عن وجه الاستبداد وأقنعته، وتفكك جميع الحوامل التي كان يقوم عليها، من مقاومة، وتحرير، وعلمانية، وغيرها‭.‬ ويواجهون، أيضا، القوة الإقليمية الغاشمة التي قررت فرض نفوذها وتوسعها غازية، غير مكترثة بما يتمزّق من علاقات جوار وتآخٍ ودين وتاريخ مشتركين، متمثلة في حلم الإمبراطورية الإيرانية لملالي طهران وقم‭.‬

ويواجه العرب مع هذا وذاك شبكة المصالح الإقليمية والدولية التي برهنت لهم على أن العالم لا يتحرك وفق العواطف والمشاعر، بل وفق أبشع أنواع المبادلات المادية، رغم ما يمكن أن تسحقه آلتها، بعلاقاتها وميكانيزماتها الوحشية، من ملايين البشر الذين هم عندها محضُ أرقام‭.‬

ويواجه العرب، أخيرا، حقيقة جهل الشعوب العربية بهذا كله، وغيره من شرور العولمة وآثامها، وسهولة انقياد الناس خلف كلِّ راعٍ يرفع شعاراتٍ برّاقة، في ظل نقص فادح في المعرفة، وتخلّف مستشرٍ في البيئة وسراب يُحيطُ بالدولة الوطنية التي ظن العرب أنهم أسسوها، فلم تكن دولة حتى يكون مواطنٌ، ولم يكن مواطن حتى يكون مجتمعٌ‭.‬ كل شيء هنا جمعي وجماعي، نعم، ولكن بمعنى عدديٍّ ورقميٍّ لا غير‭.‬ الناس أرقام تحصى، وأكثر ما تحصى الناس، اليوم، في المدن والمزارع، تحصى في القتل والمقتولين‭.‬

***

على أن هذا الضغط الكبير الذي يواجهه العرب، ويحدث للمرة الأولى في مسارهم الزمني، سوف يؤدي دوره الكامل في إعادة إنتاج هوية عربية، وهو ما لم تتمكن السياسة من صنعه، بعد تشظيها وزوال عصر الإيديولوجيا التي كانت تسوّغها، ولم تتمكن القوة من حسمه، لأن القوة من دون المعرفة هباء منثور‭.‬

وبالتالي فإن القادر الوحيد على حمل المشروع العربي، هو الكائن الحيّ المستمر، بمعزل عن التراجيديا العربية الراهنة، إنه الثقافة الجامعة التي صمدت وعاشت رغم جميع العصور التي سمّيت بـ‭"‬عصور انحطاط‭"‬، وتمكنت من إثراء الهوية العربية طويلاً، بالمنتج الفكري والإبداعي، حين لم يكن هناك لا جيوش ولا ميزانيات ولا سيادة ولا كيانات تنتج دولة عربية‭.‬

الثقافة، وحدها هي ما أنتجَ الخيوط السرّية التي نسجت بألوانها المتعددة سجادة الحضارة العربية التي حاكتها أصابع المفكرين والمبدعين من جميع الأعراق والديانات والطوائف والمذاهب، وهي المعبرة بعمق عن مزية الهوية العربيةـ أساساً، التي بدأها الشعر الجاهلي، ثم القرآن الكريم، وما تلاهما من فكر جغرافي ومنطق وفلسفة ونثر بديع، وعلوم في الفلك والطب والفيزياء والرياضيات‭.‬ وما برحت الثقافة جسراً مكيناً يربط العربي بالعربي ويصله بالآخرين، رغم الحدود التي أقيمت بين الجغرافيات‭.‬

***

على أن هذه الثقافة التي أَثْرَتْ نسغها الحيّ بارتيادها جغرافيات شتى، شرقاً وغرباً، وتنفُّسها هواء تلك الجغرافيات واكتسابها بعض ألوانها، تخضع بدورها، اليوم، إلى تحوّل كبير، ينقلها إلى الحداثة، وهي، في نظرنا، قادرة على استيعاب مفردات العصر ومغامراته، ما يجعلها قابلة لأن تخوض معركتها في فضاءات فكرية وإبداعية مرتبطة بآليات صناعة واستهلاك حقيقيين للثقافة، بدلاً من كونها امتداداً كئيباً لشاعر القبيلة البدوية، أو واعظ السلطان، ومهرجه‭.‬

الضرورة الحتمية، وهي اليوم ضرورة دامية، هي ما يدفع العرب رغم كل ما تطالعنا به صور الحريق الكبير في خارطتهم، ليخوضوا مغامرة النهوض من الرماد والشروع في صناعة مستقبلهم بأنفسهم، ليكونوا من جديد صُنَّاع حضارة على خارطة العالم، وتحت شمس العصر‭.‬

نوري الجرّاح

لندن في 27-3-2015

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.