صلاح ستيتية يترجل في باريس عن حصان الشعر

رحيل آخر الشعراء الفرنكوفونيين العرب الكبار
الأربعاء 2020/05/20
صوت أساسي في الشعر الفرنسي

رحل صلاح ستيتية آخر الشعراء الفرنكوفونيين العرب الكبار، توفي في مصحة بإحدى ضواحي باريس، وكان قد عولج من إصابته بفايروس كورونا وشفي منه، لكن جسده المنهك من المرض لم يحتمل وقد ودع عالمنا ليل أمس، ليختم بغيابه سيرة حافلة لشاعر ترك بصمته على الشعر العربي المكتوب بالفرنسية.

ولد في بيروت سنة 1929 لأسرة بيروتية عريقة. تلقى دروسه في المدارس الأجنبية في بيروت، وتابع دراساته الجامعية والعليا في فرنسا. مارس العمل الدبلوماسي طويلاً، وكان مندوب لبنان الدائم لدى اليونيسكو، ثم سفيراً في المغرب، وأميناً عاماً لوزارة الخارجية اللبنانية، وسفيراً في لاهاي.

عرفت عنه مواقفه الإنسانية والحضارية، ومواقفه المبدئية من القضايا العربية. وكان في مهمته المزدوجة في الشعر والدبلوماسية جسر حوار بين الشرق والغرب، وقد أصبح في وقت مبكر من تجربته الشعرية صوتاً أساسيا في الشعر الفرنسي، واسما شعرياً لامعاً.

شغفه بقضايا الشعر الحديث والمعاصر جعله يرتبط منذ أواسط القرن الماضي بصداقات مع كبار الشعراء الفرنسيين، مثل بيار جان جوف، أندريه بيار دومانديارغ، إيف بونفوا، أندريه دو بوشيه، رينيه شار وغيرهم.

حاز على جوائز أدبية كثيرة في طليعتها جائزة الفرنكوفونية الكبرى لعام 1995، وجائزة الصداقة العربية الفرنسية عن كتابه حملة النار، وجائزة ماكس جاكوب وجائزة المفتاح الذهبي لمدينة ميديريفو في صربيا.

في الصحافة الثقافية أسس صلاح ستيتية ملحقاً أدبياً أسبوعياً باللغة الفرنسية “لوريان ليثيرير” لعب دوراً كبيراً كوسيط بين الإبداعات الجديدة في الغرب عموماً وفرنسا خصوصاً، وبين انبثاق أنماط كتابة وتفكير جديدة في لبنان والعالم العربي والشرق. وفي فرنسا ساهم كتابةً وتحريراً في كبريات مجلات الإبداع الأدبي والشعري، مثل لي ليتر نوفيل، لانوفال ريفوفرنسيز، ديوجين وغيرها.

الشاعر الفرنكوفوني التونسي أيمن حسن الذي ارتبط بعلاقة وثيقة بالشاعر، كتب لـ”الجديد” تحية وداعية لشاعر استحق عنده اسم المعلم.

                                                                                                       قلم التحرير

وداعا أيها المعلم

كان ذلك يوم الثّلاثاء 26 جويلية/يوليو 2016، على منصّة سوق الشّعر بمدينة سيت الفرنسيّة، حيث قمتُ صحبة عدد من الشّعراء بتقديم تحيّة وداع لفقيد الأدب الفرنسي والعالمي إيف بونفوا الذي كان قد توفّاه الأجل المحتوم في أوّل الشّهر، وكنتُ قد خصّصتُ له نصّ وداع تحت عنوان ”رحيل إيف بونفوا آخر الشعراء الفرنسيين الكبار” [1].

يومها، كادت تنقطع فعاليّات المهرجان بسبب الإرهاب الذي ضرب عمق فرنسا، في إحدى الكنائس، حيث كان ضحيّته راهبان مسالمان، لكن أصرّ الرّئيس الشّرفي للمهرجان الشّاعر اللّبناني الكبير صلاح ستيتيّة مواصلة المشوار ومحاربة الإرهاب بالشّعر، طالبا منّي بعد الغداء مشاركته قراءة قصيدة “أنشودة المطر” لبدر شاكر السيّاب باللّغتين العربيّة والفرنسيّة، وهو الذي كان ترجمها إلى لغة بودلير صحبة الشّاعر العراقي كاظم جهاد حسن.

فهمتُ سبب اختيار العزيز صلاح ستيتيّة لي، فهو بهذه الطّريقة كان يجعل منّي رفيقاً له ولجورج شحادة ولمواطني عبدالوهاب المؤدّب ولسابقيّ من الشّعراء العرب النّاطقين بالفرنسيّة. لكن، بعد التحيّة للمرحوم إيف بونفوا، أخرجتُ من جرابي النصّ الذي كتبته عنه بالعربيّة، وعندها أمام الصّديق الشّاعر المغربي محمّد بنّيس الذي شاركنا التّكريم، وبصوته المسنّ والعذب في الآن ذاته، وبفرنسيّته الرّشيقة الّتي لم تتخلّ عن لكنتها اللّبنانيّة السّاحرة، وبعد أن مسك يدي رامقا إيّاي بعمق، قال لي وكأنّه يجعل من سي محمّد شاهدا علينا “أيمن، أريدُ أن تكتب نصّا مماثلا عنّي يوم وفاتي”.

واليوم وقد ترجّل صلاح ستيتيّة أرغبُ في الحديث عنه بصفته شاعرا مغوارا، كما نتحدّثُ عن فارس أو محارب، فعلاقته بالأدب والشّعر الفرنسي تتجاوز ما يمكن أن نتخيّله في إطار ممارسة عاديّة لفعل الكتابة أو للعلاقة الخاصّة التي تربط المبدع باللّغة، فعلاقة “المعلّم”، كما كنتُ أسمّيه (علما وأنّها كلمة تعني عندي “السيّد” وربّما “الشّيخ” بالمعنى الرّوحاني أو حتّى الصّوفي للكلمة)، باللّغة الفرنسيّة تجعل منه من أهمّ الشّعراء المعاصرين وأعمقهم من بودلير إلى يومنا هذا. صحيح أنّ صلاح ستيتيّة لبناني وعربي ومسلم سنّي حتّى النّخاع، لكنّ آدميّته، وفي هذا السّياق أفضّل هذه العبارة على كلمة إنسانيّة، للبعد الخلقي والربّاني واللاّهوتي الذي تتضمّنه والذي يتوافق مع نظرته للعالم، تجعل منه حاملا لإرث متعدّد يجمع بطريقة متناسقة بين هويّته الأصليّة والهويّة التي انتخبها وأبدع في ربوعها، والتي تتمثّل في الأفق الفرنسي – الأوروبي – الغربي بثقافته المزدوجة الإغريقيّة واللاّتينيّة من جهة واليهوديّة المسيحيّة من جهة أخرى.

كان صلاح ستيتيّة متمكّنا من كلّ هذه المرجعيّات التي ما انفكّ يتحاور معها ويسائلها في كتاباته شعرا كانت أم نثرا. لهذا السّبب ذكرتُ اسم شارل بودلير، الذي يعتبره ستيتيّة أب الحداثة الشعريّة الفرنسيّة وصاحب “ثورة لغويّة” كاملة كما وصفتها الباحثة في الألسنيّة جوليا كريستيفا. لكنّ اسم بودلير وبعده رامبو ومالرمي وبول فاليري يمثّلون للشّاعر العربي المبدع بالفرنسيّة أقرانا أو أفرادا تابعين لحلقة واحدة جعلت من الشّعر حياة كاملة لا شيئا تكميليّا أو زينة. وهذا ما نلمسه فعلا في أدب صلاح ستيتيّة بداية من نصّ ضارب في العمق، كان قد كتبه في سنّ “السابعة عشرة- الثّامنة عشرة” من عمره في كرّاس أو بالأحرى ملاحظات سفر كان يوجّهها الطّالب الشّاب لمعلّمه الكبير غابرييل بونور (1886 – 1969) الذي أسّس سنة 1945 المدرسة العليا للآداب ببيروت، مؤسّسة جامعيّة عليا أدارها صحبة الشّاعر والمسرحي اللّبناني الكبير جورج شحادة (1905 – 1989).

الرحلة إلى حلب

أيمن حسن ارتبط بعلاقة وثيقة بالشاعر
أيمن حسن ارتبط بعلاقة وثيقة بالشاعر

عنوان هذا الكتاب “الرّحلة إلى حلب”، ويتمثّل في شكل “نوتات” نثريّة وأحيانا شعريّة من خلالها يحاول الشّاعر الشّاب تفكيك رموز العالم وعلاقته مع هويّته من جهة واللّغة التي انتخب للتّعبير من جهة أخرى. ربّما يجب علينا ترجمة بعض المقتطفات، عسانا نوصل عبقريّة هذا الصّوت الفتي والضّارب في العمق “قادما من بيروت، عندما تبدأ القاطرة في الانزلاق على منحدر حوض حلب، تجذبك جودة الصّمت. كان يرافقنا منذ حماة. صمت متوتّر، نقيّ بفضل الأوراق والعصافير، متغذّ من توازنه الذّاتي. لكنّك كنتَ مشدودا بمنظر كامل من الموسيقى. كنت تصغي للمقدّمة البطيئة للقوس. كنتَ تبحر باتّجاه أيّ حميميّة! على حركيّة الرّمادي اللاّمتناهية. المنظر الملغى بعنف قلق منتصف النّهار يتشكّل من جديد لعيونكم ببطء”.

إذن في سنّ “المتنبّي” آرثر رامبو، في سنّ الخروج من المراهقة وقبل الغوص في الحياة الجديّة والقاتلة، يخوض الشّاب صلاح معركة الشّعر. ما قرأناه هنا يتناسق في العادة مع مشاهد أو لوحات تصوّر مناطق أخرى من العالم. ربّما أوروبيّة أو آسيوية أو أميركيّة. لكن صلاح ستيتيّة يعود إلى أصوله، إلى النّبع كما فعل مواطنه ميخائيل نعيمة على سبيل المثال في قصيدة “النّهر المتجمّد”. فمترجم “النبيّ” لجبران من الإنجليزيّة إلى الفرنسيّة يجمع في شعره وفي نظرته للعالم بين تجارب الفرنسيّين الذين ذكرنا أمثال بودلير في القرن التّاسع عشر وفاليري في القرن العشرين، وكذلك بين مواطنيه من شعراء “الرّابطة القلمية” وأدبائها. هذه الحركة، في شكل “القوس” المذكور في النصّ السّابق، تعكس ديناميكيّة المعلّم ومرونته والذي يستحضر في “الرّحلة إلى حلب” “حديقة الجزائر”، جامعا بذلك من خلال حركة رشيقة بين مشرق المتوسّط العربي ومغربه ومقدّما التحيّة في آن للشّيخ الأكبر محي الدّين بن عربي وللأمير عبدالقادر الجزائري.

أيها المعلم

شاعر مغوار
شاعر مغوار

هذا هو “معلّمي” صلاح ستيتيّة: كنز بأتمّ معنى الكلمة، في علمه الموسوعي، في ثقافته الآدميّة وكذلك في بساطته الضّاربة في السّخاء. كان قد أهداني سنة 2009 قصيدة تحت عنوان “جوع”، وكان إمضاؤه بسيطا وعميقا في نفس الوقت “إلى أيمن، صديقه صلاح ستيتيّة”. اليوم وبعد عقد من الزّمن أقرأ القصيدة من جديد وأرى فيها ملامحك، ملامح الرّجل الحالم والمفكّر الحرّ والصّديق الوفيّ. وداعا معلّمي صلاح ستيتيّة.

جوع

يوجد الكثير من السّواد في مجرى المشهد

الكثير من السّواد لتجويع الثّلج

الكثير من الثّلج في أعمق ما في الجسد

جسد الحبيبة الذي هو نور مكتوب

أقول إنّ غدا حمامة، إنّ غدا

ستعود لتتزوّج من قلبنا

غدا النّار المطر المشهد

وعلى قمّة الحبّ اللاّمتناهية

وكأنّها مُشتعلة حماسة الرّيح.

كتب

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.