ميشيل‭ ‬فوكو ‬وعلاقته‭ ‬بالليبرالية‭ ‬الجديدة‭ ‬واليسار

السبت 2015/08/01

لا يزال ميشيل فوكو (1926- 1984)، بعد إحدى وثلاثين سنة على وفاته، أكثر المفكرين الفرنسيين إشعاعا، وأشدهم إثارة للجدل، بفضل دراساته حول تجلّي الخطاب في علاقته بتاريخ الفكر الغربي كما في “أركيولوجيا المعرفة” وتحاليله لتاريخ الجنسانية في “الجنس والحقيقة”، ونظرياته العامة عن السلطة في علاقاتها المعقدة بالمعرفة ضمن كتابه “الكلمات والأشياء”‭.‬ ولا تزال المفاهيم التي ابتكرها في السبعينات مثل “البيو بوليتيك” و”الضبط” و”الجهاز″ و”المعايير” و”العناية بالذات” و”الحوكمة” تجري على الألسنة باستمرار في حقول التاريخ والاقتصاد والجغرافيا وعلم الاجتماع‭.‬

عرف عنه نقده للمؤسسات الاجتماعية، مثل عيادات التحليل النفسي والطب والمنظومة السجنية، مثلما عرف عنه تحيزه للمهمشين، فقد كان هو نفسه في عداد الفئات المنبوذة نظرا لشذوذه الجنسي، في وقت لم يكن المجتمع مهيأ فيه لقبول الاختلاف‭.‬ وبسبب من ذلك كانت فلسفته، في جانب منها، دفاعا عن المنبوذين في المجتمع، من مجانين ومساجين ومهاجرين أجانب ومهمشين ومثليين‭.‬ مما جعله، خلافا للنزعة الفلسفية السائدة التي كان الفكر فيها مسلطا على العقل والمركز، يؤثر الاهتمام بالهامش، لأنه عانى منذ صغره معاناتهم، حيث خضع للعلاج النفسي وشارف على الجنون، وهي تجربة عالجها في كتابه “تاريخ الجنون” معالجة حلل فيها الحدود الفاصلة بين الجنون والعقل‭.‬ أي أن فكره كان في حركية دائمة، لا يثبت على حقل معرفي واحد، وهو ما يفسر انتشاره في فرنسا وخارجها، في الولايات المتحدة خاصة، حيث ينعت بالقديس فوكو‭.‬

ولكنّ جانبا آخر من فكره ظل غير معروف، وهو جانب يشكل إحدى نقاط قوته، فيما يرى أنصاره وتابعوه، وسقطته في عيون مناهضيه، ونعني به دروسه التي كان ألقاها في الكوليج دو فرانس من يناير إلى أبريل 1979 عن الليبرالية الجديدة‭.‬ وقد شكلت تلك الدروس قطعًا مع تحاليله للمنظومات الفكرية الكبرى في الغرب عبر نفض الغبار عن النصوص القديمة، واستشرافًا لمنظومة لا تزال في طور التشكل، ولم يكن أحد يتصوّر وقتها أنها ستصبح “كتاب تعاليم” لمختلف القادة السياسيين في العالم‭.‬ وبنشرها عام 2004 في كتاب عنوانه “نشأة البيوبوليتيك”، صارت مثارا لجدل لا ينتهي‭.‬

ترك فوكو الأرشيف إذن ليشتغل على نصوص جديدة لم يمض على صدورها سوى بضعة أعوام، ولم يجد حرجا في الاستشهاد بأشغال “مركز أميركان أنتربرايز″ ( لجنة تفكير تجمع المحافظين الجدد الذين طفوا على السطح في مطلع هذا القرن من خلال دورهم في توجيه سياسة جورج دبليو بوش)، ولكن إذا كان رجال السياسة والاقتصاد يقدمون الليبرالية الجديدة كتطبيق لمقولة “دعه يعمل”، تتخلى بموجبها الدولة عن أداء دورها وتترك الفاعلين الاقتصاديين يعبرون عن ميولهم الطبيعية التي لا تتعدى رغبتهم في الإثراء، فإن فوكو يبين أن تنظيم المجتمع على نحو نيوليبرالي يفترض تدخلا متصلا من الدولة، لأن تعميم المنافسة في نظره ليس عفويا، وفرضه يستوجب إعادة تشكيل لا للبني الاقتصادية وحدها، وإنما أيضا للسلوكيات البشرية خاصة‭.‬ أي أن يصبح كل فرد “متعهّد نفسه” وهو ما يحتم تعميم شكل المنشأة في داخل الجسد الاجتماعي، وإضفاء معيار اجتماعي على الإنسان الاقتصادي homo economicus، ذلك الكائن البارد والعقلاني الذي لا ينفك يقيّم أفعاله من منظور الربح والخسارة‭.‬ وفي رأيه أن الليبرالية تصنع علاقة جديدة بين الفرد وذاته، وبين الأفراد بعضهم ببعض‭.‬

وإذا كان بعض المفكرين مثل وندي براون وميريام ريفو دالّون وبيير داردو وكريستيان لافال، قد ساهموا في ترويج تحليل فوكو لليبرالية الجديدة، حتى صار كتابه مرجعا في الفلسفة السياسية، وأشادوا بنبوءته في هذا المجال، دون أن يحددوا موقف الرجل منها، هل هو منبهر بها أم هو يتناولها بالنقد، فإن جوفروا دو لاغازنري بيّن في كتابه “الدرس الأخير لميشيل فوكو عن النيوليبرالية والنظرية والسياسة” أن فوكو جعل من التقليد النيوليبرالي اختبارا، أداة نقد للواقع وللفكر، وبؤرة تخييل تتيح التفكير بشكل مغاير‭.‬ وفي رأيه أن فوكو استخلص حدود الفلسفة السياسية، ونظريات العقد والقانون والماركسية والتحليل النفسي، وأراد أن يبتكر فن رفض الخضوع عن طريق إعادة تأويل الليبرالية الجديدة، وما يتبع ذلك من تكرار مفاهيم كلاسيكية كالدولة والمجتمع والسلطة‭.‬

ويعتقد أن فوكو في منَعة من الثنائية “مع أو ضد”، فدروسه ليست مديحا لليبرالية الجديدة ولا هي إدانة لها‭.‬ بل إن الرجل وجد فيها وسيلة للتفكير بشكل مختلف، على غرار محاولات فريدريخ هايك وغاري بيكر وميلتون فريدمان، من أجل بناء سياسة لا تكون رجعية‭.‬ والرهان هو إعادة خلق تقاليد ليبرالية في صفوف اليسار، وإعادة صياغة خطاب النظرية النقدية‭.‬ وفي رأي هذا الفيلسوف الشاب أنّ ثمة هوسا بالليبرالية الجديدة حتى أن كل من ينتقدها صار يوصف بالتقدمية‭.‬

ولكن آخرين، ممن يضعون يسارية الرجل موضع مساءلة، يذهبون في تحليل دروسه مذهبا آخر‭.‬ في كتاب “نقد فوكو (أي النقد الموجه له)- الثمانينات والإغواء النيوليبرالي” صدر أخيرا تحت إشراف عالم الاجتماع البلجيكي دانيال زامورا، يتساءل بعض المساهمين عن “غواية فوكو النيوليبرالية”، ويرون أنه عند وفاته عام 1984، كان عالم ما بعد الحرب وما حمله من آمال في التحول الاجتماعي قد انطفأ معه‭.‬ وجاءت الأعوام التالية لتشهد انتصار الليبرالية الجديدة وهتك الحقوق الاجتماعية‭.‬ وهو، وإن لم يكن شاهدا مباشرا على تلك التحولات، فإن أعماله كانت ذات رؤية مستقبلية‭.‬

فمسألة الليبرالية تحتل موقعا هاما في كتاباته الأخيرة، ومنظومته الفكرية لا تزال في صدارة النشاط الفكري والفلسفي والسياسي، لدى شريحة عريضة من مثقفي اليسار، إلا أن موقفه من الليبرالية الجديدة كان ملتبسا‭.‬ فبدل أن يخوض صراعا فكريا حاسما ضد “دوكسا” السوق الحرة، بدا في مواطن عديدة منخرطا فيها، وإلا فكيف نفسّر نقده الراديكالي للضمان الاجتماعي، وهو يصفه بأداة تَمام “البيو سلطة”؟ وكيف نفسر مساندته للفلاسفة الجدد؟ (رغم أنه ابتعد عنهم عقب الثورة الإسلامية في إيران، فقد كان يرى فيها انتفاضة روحية، فيما هم عَدّوها توتاليتارية جديدة)‭.‬

هل فُتِن فوكو بالليبرالية الجديدة؟ هذا السؤال، وإن كان لا يجسّد بحق تطورات مثقف، يطرح بشكل أعمّ ارتداد جانب من يسار ما بعد مايو 68، والخيبات التي تلته، والتحولات العميقة التي طرأت على الحقل الثقافي الفرنسي في العشريات الثلاث الأخيرة‭.‬ يقول بيير زاوي “أن نفهم الثمانينات والانتصار النيوليبرالي، فمعناه أيضا أن نتقصى أكثر تجاويف اليسار الفكري التباسا، من خلال واحد من أبرز أعلامه”‭.‬

كتاب ثان للفيلسوف سارج أودييه، الأستاذ المحاضر بالسوربون، عنوانه “تصوّر النيوليبرالية” مع عنوان فرعي “اللحظة النيوليبرالية، فوكو والأزمة الاشتراكية”‭.‬ وهو بحث دقيق يبين فيه أن الليبرالية الجديدة، إن كان لها وجود فعلي، ففي شكل سديم أفكار متقاربة حينا (كفكرة تحييد العملة أو معارضة الاشتراكية)، ومتعارضة حينا آخر (كدور الدولة، والفرد، والمساعدات الاجتماعية) وفي كل الأحوال متعددة، فالمدرسة النمساوية تدافع عن ليبرالية تعمل على رد الاعتبار لـ”دعه يعمل” خارج أيّ وازع اجتماعي، ومدرسة شيكاغو تدافع عن ليبرالية اختبارية تنبّئية، والأوردوليبرالية الألمانية انتهت إلى اقتصاد سوق بصيغة اشتراكية، فلا وجود في رأيه لبراديغم نيوليبرالي‭.‬ حتى النيوليبرالية الفعلية، تلك التي اعتمدتها سياسات ريغن وثاتشر، لم تكن مقصورة على تطبيق فكر وحيد‭.‬

وينزّل المؤلف دروس فوكو في إطارها التاريخي، ليبين أنها تولدت عن جدل داخل ما سمّي باليسار الثاني حول إعادة الاعتبار للمنشأة، وجاءت عقب التقارب بينه وبين بيير روزنفالّون وباتريك فيفريه عندما لمس لديهما هاجس رفض الدولة الذي يسكنه، وكان يتحدث في دروس 1979 عن “فوبيا الدولة”‭.‬ هذه الفوبيا، يقول أودييه، لم تأت من فراغ، بل مهّد لها تهاوي المثل الأعلى الشيوعي منذ عام 1976 بعد نشر سولجنتسين نصوصه عن الغولاغ، ومعاملة المنشقين معاملة قاسية، إضافة إلى مآسي لاجئي القوارب الفارين من فيتنام‭.‬ وكان من نتيجته أن أعلن فوكو انحيازه إلى الأقليات المطاردين من الدولة، وإدانته لتجاوزات السلطة‭.‬

وراجت عندئذ في أوساطِ عدةِ تياراتٍ فكرية فكرةُ قيامِ مجتمعٍ بلا دولة، وأثير موضوع إعادة الاعتبار لوظيفة “المتعهد” بوصفها أفضل وسيلة للمرء كي يمسك مصيره بيديه‭.‬ ولما طرح أندريه غورز، أحد رموز اليسار الثاني، مسألة حسن التصرف في الليبرالية الجديدة أو استعمالها استعمالا ذكيا، سارع فوكو إلى تبنّيها، مع أنه لا يشاطر هذا الفريق أنسنته لكونه يؤمن بالبنى أكثر من إيمانه بالبشر‭.‬ ومن ثَمّة، يقول أودييه، انجذب فوكو إلى الليبرالية الجديدة التي لا تهمها حريةٌ ولا سعادةٌ بقدر ما يهمها الجانب الحاسب للأفراد، لتسلط نفوذها من خلاله على رقابهم‭.‬ وبالرغم من تخليه عن فكرة “فوبيا الدولة” التي صارت ترصّع خطاب اليسار المتطرف، بتأثير من غي ديبور وهربرت ماركوز، ورفضه وضع الديمقراطيات الغربية والدول الفاشية على قدم المساواة، ظنّ فوكو أنه وجد في الليبرالية الجديدة حلاّ وسطا: حُكمٌ قليلٌ من السوق خيرٌ من حكم مفرط من الدولة، ولكنه أخطأ التقدير، فباسم حضور أقل للدولة، وقع الترويج لحضور أكبر للسوق‭.‬ وإذا كان الهدف الأول مشروعا فإن الثاني ليس السبيل الأمثل لبلوغه‭.‬

ليس من الإنصاف في شيء أن نحكم على عمل ثمانيني بمنظار الوقت الراهن، فما من أحد تنبأ بما سيكون عليه العالم في ظل رأسمال متوحش‭.‬ ولكن الثابت، يقول المؤلف، أن على الاشتراكيين تعديل نهجهم، لأن تأثرهم بأطروحات فوكو، وقد بدأ يتجلى في قرارات إمانويل ماكرون وزير الاقتصاد والمالية في حكومة فالس، قد يقودهم إلى طريق مسدود‭.‬

والسؤال الذي يطرح الآن: هل فوكو يساري حقا؟ هل هو معاد لليبرالية الجديدة أو منبهر بها انبهارا منعه من تصور نتائجها الكارثية على الفئات الضعيفة والمجتمعات الفقيرة؟ قال مرة في نوع من المفاخرة “يمكن وصفي بأني أنارشيست ويساري وماركسي وعدمي ومناهض للماركسية وتكنوقراط في خدمة الديغولية ونيوليبرالي‭..‬ ما من نعت من كل تلك النعوت له أهمية في حدّ ذاته، ولكنها مجتمعة، تصبح ذات معنى”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.