شموس غاربة على نهر السين

الأحد 2025/06/01
محمد ظاظا

درس الغراب

 

14  يناير 2021:

مشيت اليوم 11 ألف خطوة في باريس. انطلقت من المدينة الدولية للفنون إلى شارع ريفولي، وبعد أن قطعت مسافة لا بأس بها فيه، اتجهت إلى بوليفار سيباستوبول وفي شارع متفرع منه جلست في حديقة صغيرة، وهناك رأيت متشردًا يحفر الأرض. لم أعرف عمَّ كان يبحث بالضبط، ثم خطر لي أنه لا يبحث عن شيء بعينه. يمكنني، بعد كل هذه الأعوام، تفهّم أن الحفر ليس مدفوعًا بالضرورة بالرغبة في العثور على لُقْيَة من أيّ نوع، بقدر ما يتحول مع الوقت إلى أسلوب حياة. أقصد هنا الحفر بمعنييه الحرفي والمجازي. فأنا وإن توقفت عن الحفر الفعلي منذ غادرت مرحلة الطفولة، اتخذت منه طريقة حياة ووسيلةً لمقاربة الأحداث والبشر، بل وأحيانًا تقنيةً للكتابة.
في طفولتي الباكرة سكنتني فكرة العثور على كنز. لا أعلم من غرس هذا الهوس في وعي الصغيرة التي كنت إياها، لكنني أتذكر كيف اعتدت اختيار بقعة مختلفة كل يوم، في حديقة بيت العائلة، للحفر فيها بحثًا عن كنزي المُشتهَى. وحين تعاقبني أمي بسبب لعبي في التراب، أنتقي بقعة منعزلة أو أحفر بين أشجار بستان الخوخ المملوك لجدي. لم يقنعني عدم عثوري على أي شيء بالعدول عن هذا الفعل، فالأطفال لا يتقنون اليأس، بل يبرعون في الحيلة. هكذا قررت أن أصنع كنزي الخاص. ما عليّ سوى تجميع مكوناته. اختلست علبة شيكولاتة معدنية فارغة، وحصالة أختي الكبرى (كانت في المدرسة وقتها) وأخرجت مقتنياتي من الكريات الزجاجية وقطع الكريستال الملونة، واتجهت إلى الحديقة. كان ضحى شتويًا أضفت عليه الشمس لمسة دفء محببة. فتحت حصالة أختي، ووضعت مدخراتها من عملات ورقية ومعدنية في علبة الشيكولاتة ومعها الكريات الزجاجية والكريستال. أغلقت العلبة وحفرت الأرض ودفنت كنزي الثمين. بعد الانتهاء نثرت بعض أعواد قش أرز وورق شجر جاف لمداراة أثر فعلتي. غمرتني الإثارة وأنا أتخيل لحظة إعلان عثوري على هذا الكنز. اعتدت بعدها اللعب على مقربة وأنا أقاوم فضولًا كبيرًا للحفر مجددًا من أجل الاطمئنان على أن كل شيء في مكانه. بعد أيام اكتشفت أختي اختفاء حصالتها، ولا أتذكر ما أعقب هذا من سلسلة أحداث دفعتني في النهاية إلى فضح سر خبيئتي. المهم أن نقود أختي عادت لها سالمة، لكنني لم أتخل عن ولعي بالعثور على كنز مخبوء، ولم أتوقف عن حفر الأرض كلما اُتيحت لي الفرصة. لم أفكر في الكنوز إلّا كأشياء مدفونة في باطن الأرض، وكلما رأيت امتداد الأراضي حولي، تيقنت من أننا نعيش فوق ثروات مطمورة. حتى عندما أفقت على تجريف التربة الزراعية في منطقة نشأتي، لإمداد مصانع الطوب الأحمر بما تحتاجه من طمي، ولاحظت أن كل هذا التجريف لم يُسفِر عن اكتشاف كنوز من أيّ نوع، ولم يُخلِّف سوى الخراب والتشويه، لم يتزلزل يقيني الطفولي.
لم أعرف إلّا لاحقًا أن الأرض نفسها هي الكنز الأكبر، وأن حمايتها هي والبيئة التي نعيش فيها أهم من أيّ مكسب آخر. أفكر في ولعي القديم بالحفر هذا، وربطي بين الطمر وبين القيمة الثمينة، فيخطر لي أن اهتمامي بالزراعة ربما يعود في جزء منه إلى أن بذور النباتات تُغرَس في التربة، وجذور الأشجار المعمرة مختبئة في أعماقها.
بعد سنتين أو ثلاث قرأت قصة “جاك وشجرة الفاصولياء”، ففوجئت لأول مرة بأن الكنوز قد توجد بالأعلى؛ فوق قمم أشجار سحرية، ومن هنا رحت أتساءل: فوق أيّ شجرة سألتقي بكنزي الموعود؟ لكن لم ينشأ ولعي بتسلق ما استطعت من أشجار عن هذا، لأنه بدأ في وقت أبكر.
هكذا تقاسمت قمم الأشجار وأعماق الأرض السحر في طفولتي، وارتبط كل ما هو ثمين بالخفاء، كأن المتاح للعين والواضح لكل نظرة فضولية لا يُعوَّل عليه.
انتبهت من أفكاري ونظرت حولي، في الحديقة الصغيرة، فراعني منظر الأشجار العارية، كأنها حطام أشجار سابقة وتعريفٌ للجدب واليباس. لعلّ أقسى ما في شتاء باريس أن أشجارها تكاد تموت خلاله. منذ وصلتُ إلى هنا أكثر ما أراه الأشجار منزوعة الخضرة والغربان. ليست مصادفة أن تقودني الغربان، التي أحبها كثيرًا بالمناسبة، إلى التفكير مجددًا في الحفر. أليس الغراب هو معلّم البشر الأول في الحفر؟ فكرة أنه كان يحفر قبرًا، وليس حفرة لطمر كنز، فائضة عن الحاجة هنا.

هاوية الذات

15  يناير 2021:

تتحول الكتابة أحيانًا إلى مواجهة مع الأشباح؛ أشباح ماضيك ومخاوفك وجنونك. تصبح تحديقًا في هاوية ذاتك. هذا ما أنا بصدده حاليًا وما أحاول عبثًا الهرب منه، لأنني ما إن أنجح في الانفلات حتى أعود صاغرة للتدوين؛ لا أملك رفاهية التوقف.

لغة الثلوج

16 يناير 2021:

إنها تثلج؛ تبدو العبارة غريبة الوقع على نفسي. أجلس إلى مكتبي، موزعة بين التدوين وبين مراقبة ندف الثلج المتطايرة وهي تذوب قبل أن تصل إلى الأرض. أحاول تطويع لغتي لوصف الثلوج الخفيفة؛ أراها واضحة صريحة للحظة، ثم في اللحظة التالية تقترب من كونها نقاط مطر كبيرة. أدقق أكثر فأجدها قد عادت ندفًا بيضاء هشة من جديد.

الخطو فوق ثلج يتكسر

 

10  فبراير 2021:

لم يكن المشي على الثلوج اليوم يشبه أيّ شيء اختبرته من قبل. كتبت عنها قبلًا دون أن أكون رأيتها تغطي الشوارع على أرض الواقع، كتبت عن اللون والبرودة، عن اختلاطها بالأتربة وعن أن الأمر ليس دائمًا بالرومانتيكية التي تقترحها صور الجليد أو المدن والنباتات البيضاء عن آخرها، لكن فاتني رغم هذا الكتابة عن صوت تكسّر الثلج تحت القدمين، التهديد بالانزلاق في أيّ لحظة إن لم يكن المرء يرتدي حذاءً خاصًا. فكرتُ في أن اللغة العربية، رغم ثرائها الذي لا تُقارَن به أيّ لغة أخرى، إن افتقرت لشيء فسيتمثل في معجم الثلوج وما يرتبط بها، لأسباب مناخية لا أكثر ولا أقل. لكن ما أدراني! عليّ العودة إلى صديقي الدائم؛ لسان العرب، للتأكد من هذا، فقد قرأت فيه منذ سنوات عن ظاهرة الإقمار المرتبطة بعمى الثلج: قمِر الرجل، يقمر، قمرًا، أي حار بصره في الثلج فلم يبصر. ظاهرة اختبرها المتنبي حين تاه في جبال لبنان محاصرًا بالثلوج من كل جانب: “لَبَسَ الثُّلُوجُ بها عَليّ مَسَالِكي، فَكَأنّها بِبيَاضِها سَوْداءُ.”
حين قرأت هذا البيت لأول مرة، بدا كأن ملاكًا ما وضعه في طريقي للرد على سؤال مضمر كان قد خطر ببالي لتوّه. كنت أقرأ كعادتي عشوائيًا في ديوان المتنبي، وفجأة سألت نفسي: أيوجد شيء لم يكتب عنه هذا الرجل؟ وخطر ببالي أنه لم يكتب عن الأشياء البعيدة عن ثقافته بطبيعة الحال؛ الجليد مثلًا وما يتصل به من ظواهر وأمزجة. استرحت لإجابتي هذه ووجدتها منطقية؛ إذ كيف نطلب من أحدهم أن يكتب عمّا لم يحط به خُبْرا!
خلال نصف ساعة على الأكثر، صادفني هذا البيت، فتمنيت لو أن لكل أسئلتي وأمنياتي إجابات سريعة على هذا النحو. لقد عاني أبوالطيب من عماء الثلج بين شعاب جبال لبنان، وهي ظاهرة تنشأ عن ضوء الشمس الساطع المنعكس على الثلوج البيضاء، أو من تعرض العين لفترة للأشعة فوق البنفسجية، وفيها يحدث اختلال مؤقت – في الغالب – في الرؤية وفي التمييز بين الألوان.
في المساء، عدت إلى لسان العرب ومعاجم قديمة أخرى، فوجدت الكثير من التعبيرات والأوصاف الخاصة بالثلج، ولاحظت أن أغلبها ذا ارتباطات إيجابية؛ وهذا مفهوم إلى حد كبير في ثقافة نشأت في بقعة صحراوية حارة في معظمها، ثقافة ارتبطت فكرة الجحيم فيها بالنيران الملتهبة. قرأت في باب “ث ل ج” مبتهجة، وتذكرت أنني قرأته مرارًا من قبل. كان دافعي للعودة إليه وللتساؤل عن المفردات المرتبطة بالثلج والجليد في لغتي الأم، أنني فيما أخطو فوق الثلج في الصباح. انشغلت بصوت تكسره تحت قدمَي، وكما هي عادتي بخصوص كل ما أمر به في يومي، رحت أتخيله مكتوبًا، واستوقفني أنني لا أعرف اسمًا لهذا الصوت. سألت نفسي: أيوجد له اسم في اللغة العربية؟ ما هو؟ لم أكن قد توقفت أمام هذه النقطة من قبل، لأنني – كما ذكرت – لم أمشِ فوق الثلج، بل لم أشهد تساقط الثلوج قبل مجيئي لباريس، لأن معظم سفرياتي السابقة إلى بلدان باردة لم تكن في فصل الشتاء.
على أيّ حال، وجدت ضالتي في معجم “الصحاح في اللغة”:
“خشف: الخَشْفَةُ: الحِسُّ والحركة. تقول منه: خَشَفَ الإنسانُ يَخْشُفُ خَشْفاً. وخَشَفَ الثلجُ في شدّة البرد، تَسمع له خَشْفَةً عند المشي، قال الشاعر: على حينَ هَرَّ الكلبُ والثلجُ خاشِفُ / إذا كَبَّدَ النجمُ السـمـاءَ بـشَـتْـوَةٍ. (….) والخَشيف: الثلجُ.”
وجاء في “العباب الزاخر” أن الخشيف هو الثلج الخشن، أو الجمْد الرخو. والجمْد هو ما جمد من الماء. وماء جمْد أي جامد.

الشوارع كملاذ

2 مارس 2021:

منذ وصولي إلى باريس في وقت يكبّلها فيه الوباء، أمشي كما لو أن حياتي مرهونة بخطواتي. كأن كل خطوة أقطعها أُمنَح مقابلها يومًا إضافيًا، وكل بقعة تلمسها قدماي تمنحني فهمًا أعمق لذاتي وحقيقتي وتُضفي معنىَ ما على حياتي ووجودي. كأنني إيزيس وأوزوريس معًا؛ في جسد واحد وروح واحدة: ذات مقطعة الأوصال والتفاصيل وموزعة على بقاع لا تُحصَى، وأخرى تحدس بأن كل ما تناثر مِنها وما يُشكِّل هويتها وجوهرها لن يُستعاد ويلتئم جنبًا إلى جنبٍ سوى بالحركة المستمرة؛ بالمرور على الأماكن المتناثرة عليها تلك التفاصيل والأجزاء.
أتخيَّل أحيانًا أن سيري مغناطيس يجذب نحوي ما يقيم أود هويتي وما يصوغها ويهبها معنى وغاية، وأحيانًا أخرى أرى أن خطوتي هي ما يستدعي موطئها إلى الوجود؛ بحيث أمشي فتتجسَّد الأماكن أمامي ويرتفع البُنيان وتُشيَّد الشوارع والميادين والحدائق، وكل ما يجعل من المدينة مدينة. لهذا حين أخطو مغادرة مكانًا ما، أتلفّت خلفي، وأندهِش حين أجد معالمه لا تزال بادية لي رغم أنني خلفتها ورائي. كأن خطوي للأمام يكشف مقصدي ويخرجه من حيز العدم إلى حيز الوجود، وما أتركه خلفي يتلاشى ويغمره ضباب لا سبيل إلى انقشاعه سوى بعودتي إليه واتجاهي نحوه.
نعم، خلال المشي تصبح ذات السائر مركز العالم ومبرر وجوده؛ فالعالم بأسره موجود – في هذه اللحظة على الأقل – كي أقطعه. هو مجرد درب لخطواتي، والسير أحد أفضل الطرق للانغماس في الذات والتوحد بها، خاصة حين يكون مسرحها الخلاء أو البرية خارج المدن. أما التسكع في المدن، وإن كان يجعل من الذات مركزًا للعالم أيضًا، إلّا أنه يحوي أيضًا فكرة نقيضة مفادها أن الذات موضوع للفرجة بقدر ما تتفرج هي على ما يصادفها في طريق تسكعها وسيرها.
لكنني لا أعرف لماذا لا تُشحَذ شهوتي للمشي ولا تُسَّن إلى هذه الدرجة المتطرفة إلّا في الأماكن الغريبة عنّي! ربما لأنه وسيلتي للتعرف على محيطي واستئناسه والتآلف معه. مع كل خطوة أروِّض المكان وأوسع حدودي وأستحوذ على أرضية جديدة لا يمكن الاستحواذ عليها بأيّ وسيلة انتقال أخرى.
هكذا أوجدت لنفسي موطئ قدم في القاهرة، حين انتقلت إليها في الثامنة عشرة من عمري، وعقدت صداقتي مع شنغهاي خلال إقامتي فيها، ووثقت علاقتي بمدن عديدة أخرى في أوقات أقصر من أن تُوثَّق فيها أيّ علاقة بمكان إلّا عبر السير فيه بلا انقطاع.
في باريس، وخارج مكاني، تزداد وطأة الإغلاق العام. مهما بلغت ألفتي مع “الأستوديو” المخصص لي في مقر المدينة الدولية للفنون، لن يقترب أبدًا من دفء بيتي ولا حميميته. ولا سبيل لقضاء أيّ وقت في مطعم أو مقهى أو متحف لأنها كلها مغلقة. الخياران الوحيدان المتاحان إما مسكني المؤقت أو براح الشوارع. في هذه الحالة، تحولت شوارع باريس وحدائقها وميادينها وجسورها إلى ملاذ. ففيها وحدها، ومع حرصي على ارتداء الكمامة والابتعاد عن الآخرين ما استطعت، كنت أستعيد أقصى درجة ممكنة من الانطلاق في ظل وضع عام خانق ومقيِّد مفروض على عالم يحبس أنفاسه خوفًا من مفاجآت غير متوقعة لهذا الفايروس الشرس.

ساحة مفتوحة

5 مارس 2021:

كل ما أفعله منذ وصلت إلى باريس يُخلي حياتي مني، يفرغها من كل ما يخصني، ويجعلها ساحة مفتوحة لاستضافة الأطياف والأرواح الهائمة.

ساعة رملية

6 مارس 2021:

ما أقسى التعثر في الكتابة، خاصةً حين يغص الجسد والوعي والذاكرة وكل ما فينا بشظايا خبرات وتجارب وهواجس وحتى ضلالات تصطخب وترتطم بداخلنا طلبًا للخروج من سجن الذات. هي مجرد شظايا ومِزق غائمة ومتطايرة، لكنها كثيفة ومؤرِّقة إلى حد لا يطاق. أسترجع أيامًا كتبت فيها بهوس وبلا توقف، فأشعر بأنها ابنة ماضٍ سحيقٍ من الصعب بعثه للوجود مجددًا. ألوم فترة الوباء وأحملها مسؤولية شحني بالمخاوف وتعويدي على تضييع الوقت في اللاشيء. أتأمل تدفق عقيق نهر السين المذاب، وأستحضر لحظة وقفت فيها على حافة مياهه المصطخبة بحديقة تينو روسي في الضفة اليسرى. كان ثمة ريح قوية كادت تطيح بي في الماء، وكانت الأمواج هائجة لدرجة استدعت معها وقوفي ذات ربيع دافئ على شاطئ المتوسط قبل أربع سنوات. جو عاصف هو كل ما يحتاجه نهرٌ ما كي يحاكي صخب البحار، على ما يبدو.
فيما أنكفئ على طاولة الكتابة، تبلل خيالي برذاذ مياه البحر والنهر معًا، وازدحم رأسي بأفكار ليست هلامية ولا مستحيلة التدوين. تبدت لي صفحات بيضاء عديدة رغبتُ في تسويدها وملئها بالكلمات والأفكار. رأيتُ نفسي مندمجة بكل هذا البياض المحرض على الكتابة في هيئة ساعة رملية رمالها نُثار أفكار ومخاوف تنتقل ببطء مني بالأعلى إلى فضاء البياض بالأسفل. أعرف أن الدورة لا بد لها أن تنقلب ويصير الأسفل أعلى والعكس. يخيفني مجاز الساعة الرملية لأن الحركة فيها منغلقة على نفسها. هي مجرد تدوير للوقت والرمل يلائم حبسة الكتابة أكثر مما يلائم تدفقها وفورانها المبتغى. أتصور ما أنجزه من كتابة في صورة حبات رمل متسربة من الدوران في دائرة مفرغة، وأتمنى أن يتسع التسرب وأن تكون هناك إمدادات لا نهائية من رمل جديد وغير معلب في ساعة زجاجية للغرف منه، ثم أضحك من بؤس الفكرة. وأقرر ترك الساعة الرملية تدوِّر رأس مالها من الرمل عاكسةً فقط حبسة الكتابة وجفافها وعدم تجددها، والعودة إلى ما استقر عليه القدماء من تشبيه تدفق الكتابة ويُسرها بالغرف من البحر.
أردد في سري: إن كان الفرزدق “ينحت في صخر” وجرير “يغرف من بحر”، فكثيرًا ما ينطبق الوصفان معًا على الكاتب نفسه، خاصة في حالة الروائيين، إذ ثمة روايات كتابتها أقرب إلى النحت في الصخر، وروايات أخرى تُكتَب ببساطة الغرف من بحر، والكاتب واحد في الحالتين.
يخطر لي أنني الآن في بثٍ مباشرٍ من المحجر. هذا كل ما في الأمر، لا شيء يستوجب القلق. يطمئنني هذا لأن فيه وعدًا بأن مرحلة النحت في الصخر قد يعقبها عودٌ أحمد إلى الغرف من البحر.
في محاولة لاستدراج سيولة الماء وتدفقه، أفكر في نفسي كشخصية روائية: امرأة تطل من نافذة، تراقب نصيبها من باريس عبر الزجاج الممتد بعرض الحائط، تتأمل التدفق الهادئ أو الصاخب للسين، وتشرد في تخيل ما تخفيه بنايات جزيرة سان لوي بداخلها، ولا ينغّص عليها سوى مراوغة الكتابة لها. امرأة صار لمعظم ما تصادفه من أماكن أسماء، وبات بإمكانها رسم خريطة ذهنية للمدينة وهي مغمضة العينين. بوسعها الآن توريط الساحات والشوارع والجسور في علاقات متشابكة، والكتابة عن امرأة متسكعة على خطى بودلير وغيره دون أن يعوزها شيء، مدينة فقط لخطواتها التي لم تتوقف عن السعي هنا وهناك لساعات كل يوم، باستثناء الأيام الماطرة حيث تكتفي بتأمل حصتها من المدينة عبر زجاج النوافذ، بينما تكتب أو تطهو وجبة سريعة وتجلس لتأكلها وحيدة ممتنة لأن كل نقطة في الأستوديو المخصص لها ترى النهر. يمكنها حتى رؤيته وهي على سريرها في غرفة النوم الأعلى ببضع درجات عن باقي الأستوديو. يكفي أن تزيح الستائر وهي في فراشها لترى الخارج بأشجاره العارية من أوراقها في الشتاء وبمياه النهر المنسابة وبالوعود المخاتلة للضفة اليسرى من باريس.

خارج الزمن

12 مارس 2021:

اليوم في “ليهال”، ظللت أراقب لقرابة الساعة غرابًا يلعب على أطلال نافورة جف ماؤها. بدا العالم كله منحصرًا في الغراب حالك السواد، وهو يتحرك متقافزًا أو يحاول نقل عبوة “كاتشب” بلاستيكية فارغة أو يتشاغل بأيّ شيء آخر. تكرر الأمر نفسه في حديقة التويلري مع بطتين صغيرتين تسبحان في بِركة وغراب آخر يلهو بماء نافورة بالانغمار فيه ثم نفضه عنه ليتطاير الرذاذ بعيدًا.
تشعرني لحظات كهذه بأنني خارج الزمن؛ حرة خفيفة غير مقيدة بأيّ ثقل، خاصة ثقل الذكرى والماضي. أنسى كل ما يحيط باللحظة الحالية ويختفي عن أفق حياتي الاختناق الذي يسم العالم في ظل الوباء. أستغرق في تأمل شيء أو كائن، حتى أظنني تلاشيت، ولم يبق سوى ما أتأمله، كأنه قد صار العالم بأسره.

حلم يقظة

 

16 مارس 2021:

أجلس إلى طاولة الكتابة بغرفتي المطلة على نهر السين، فألمح وجهي منعكسًا على مرآة موضوعة أمامي. أتجاهله وأشرد بعيدًا صوب مياه النهر المنسابة بوداعة. أتمنى لو كنت على شاطئ بحر ما في هذه اللحظة. منذ بدء الجائحة لم أبصر بحرًا سوى بعينَي خيالي.
أحاول الكتابة، فيلفني حُلم مخاتل، أرغب في التسلل إليه بنعومة، فيما لا زلت أحدق في مياه السين المترائية لي من بعيد. أدير وجهي لغرفتي بالوخم اللذيذ المُخيِّم عليها، فتعيدني إلى قصيدة بودلير “الغرفة المزدوجة”، تلك الغرفة الروحية الشبيهة بحلم اليقظة، حيث “للأثاث فيها مظهر الحالم كأنما وهبت له حياة السير أثناء النوم كالنبات والمعدن؛ فالنسيج يتحدث لغة صامتة كالأزهار، كالسماوات، كالشموس الغاربة…”
أعود للنظر للخارج، وفي بالي تتراص مكونات غرفتي كأنما أبصرها عبر غلالة تشف فلا تحجب أو تفضح:
باقة نرجس بري أصفر في كوب خزفي، باقة تيوليب أحمر في مزهرية بلون الزيتون، وشموع مثبتة في الفتحات الضيقة لزجاجات فارغة. على رخامة ركن الطهي ثلاث برتقالات والقليل من الموز، وبرطمانات مربى فارغة ونظيفة. في الخارج تتشكَّل غيوم قاتمة تحمل وعدًا بمطرٍ إضافي سرعان ما يضيف مزيدًا من البلل إلى الشوارع والأرصفة. وفي مقابل نظرتي يواصل السين سريانه الرتيب. المياه نائمة، الكون بأكمله غافٍ، مستغرق في حلم يقظة ناعم.
أوارب زجاج النافذة المواجهة لطاولة الكتابة، فتهاجمني هَبَّة من البرد المنعش. أفيق من أحلام يقظتي، وأتحرك في الغرفة كيفما اتفق دون فكرة واحدة تثبت في رأسي، فكل ما يخطر لي اليوم يمر مَرَّ السحاب، لكنه سحاب خُلَّب لا يفي بوعدِ المطر، أو ربما لا يقدم أي وعود من الأساس.
كما في قصيدة بودلير يعاود الزمن الظهور، ويحكم سيطرته، ليحيل الغرفة الفردوسية إلى واقع كئيب وكريه.
تقول كل ثانية من الثواني وهي تنبثق من ساعة الحائط: “إنني الحياة التي لا تطاق، الحياة التي لا ترحم!”

محمد ظاظا
محمد ظاظا

صباح خامل

2 ديسمبر، 2022:

يتسلل البرد خلال فتحات النافذة، يهز النسيم زهور الياسمين بالخارج، وأراقبها عبر الباب الزجاجي الفاصل بين مكتبي والحديقة بعينٍ غائمة. تغفو القطة على كرسي مجاور، وعلى المكتب الأبيض كوب قهوة فارغ، وكتابان ومفكرة قديمة بها تدوينات ويوميات قصيرة من 2017، ومرآة صغيرة من شنغهاي مكتوب عليها: “اليوم يوم مثالي”. مثالي لأيّ شيء بالضبط؟ تبدو العبارة كأنما تعارض أفكاري، وتنهرني عن الكسل والخمول.
يصلني صوت مكتوم منتظم، أشبه بدقات طبول حرب موغلة في البعد، فلا يقدر على خلخلة هدوء الصباح. هدوء يشعرني بأنني في عالم آخر، طافية فوق واقعي، وهذا محفز دومًا لألعاب ذاكرتي وخيالي.
يبتكر لي الخيال ذكريات لم أعشها، لكن لطالما اشتهيتها، حتى لو لم أدرك هذا. يصلني تغريد طيور أجهل أسماءها تلتجئ في ساعات الصباح والمغرب إلى أشجار الحديقة، فبدلًا من أن تحملني صوب غابات شجرية وبساتين ممتدة ومتشابكة، أجدها تنقلني، وجدانيًا، إلى صحراء مشمسة تلتبس عليّ دروبها في البداية، ثم سرعان ما تصير أليفة كخطوطِ كفي. رغم أنني – بحكم ولادتي على مقربة من النيل – ابنة للنداوة والماء والشجر، ولطالما خشيتُ الصحراء، إلّا أنها لا تكف عن إغوائي لارتباطها عندي بالشِّعر، خاصة الجاهلي منه.
بين شِعاب جبالها ومِهادها وكُثبانها ودروبها الوعرة، عاش الشعراء القدامى، وارتحلوا فيها من مكانٍ إلى آخر. أجادوا قراءة سمائها وجعلوا من نجومها بوصلة لهم. حفظوا مواقعها بأسماء غامضة على الأذن الحضرية المعاصرة، ووقفوا للبكاء على الأطلال مع أن كل الصحراء أطلال، أو ربما حتى كل حياتنا وعالمنا أطلال إما فعلية أو متخيلة أو مؤجلة، لكن إيقاع حياتنا الحالي يمنعنا من البكاء، ربما لأننا لو بدأنا فيه لن نتوقف أبدًا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.