أدب اليوميات

الأحد 2025/06/01
بريشة تانيا كيالي

أدب اليوميات ليس جنسًا أدبيًّا مهمًا فحسب، بل يعتبر أحد روافد بقية الأجناس الأدبية التي تحتل ذروة الهرم الإبداعي الآن مثل: الرواية والشعر والقصة القصيرة. ذلك الرافد عمل على ازدهار الرواية في الغرب طوال سنوات، وحافظ على مكانتها وعدم تزحزحها عن عرشها. فثقافة كتابة اليوميات طقس يومي لكلّ الناس تقريبًا هناك؛ لا تخلو غرف المراهقين والمراهقات من دفاتر اليوميات، حيث يكتبون كل ما يحدث لهم مصحوبًا بآرائهم ومشاعرهم ورؤاهم وأفكارهم الحرة حوله. أوّل ما يسأل عنه المحقق البوليسي حال وقوع جريمة غامضة هو دفتر يوميات الضحية، تتكرر ثيمة العثور على دفتر يوميات قديم في الروايات الكلاسيكية الكبرى. يستفيد من هذه الدفاتر فيما بعد الرؤساء، والساسة المشهورون بعد تقاعدهم عن مناصبهم المؤثرة الكبرى، والممثلات، ولاعبو كرة القدم، وحتى القتلة المتسلسلون.

ربما شعيرة الاعتراف – كشعيرة دينية للإخوة الكاثوليك: “إن آمنت بقلبك واعترفت بفمك تخلص”، أي اعترفوا لكي تخلصوا من الخطيئة، حيث يعترفون للكاهن في الكنائس – وفكرة التطهر وتحري الصدق للأرواح والقلوب كانت وراء ترسيخ عادة كتابة اليوميات، وربما أيضًا تمتع الغرب بسقف حرية مرتفع وخلّاق، يجعل الجميع يعبرون عن مشاعرهم وأحلامهم دون الخوف من الزجّ بهم في السجون أو القلق من إحراج الأهل والأصدقاء بإفشاء أسرارهم.

بينما تسيطر فكرة “الستر” على أدبنا العربي، حيث تحثُّ الثقافة الشعبية على ستر الجميع؛ ستر الجلاد والضحية، المُغتصِب والمُغتصَبة، السجان والمسجون، الطاغية والثوري الحالم، القبح والجمال، وبناء عليه يتم تجفيف جذور فكرة كتابة أدب اليوميات، بل الكتابة نفسها، فعمّ سنكتب في يومياتنا إذا لم نتناول رغباتنا المكبوتة ومشاعرنا وشجبنا للظلم والبطش، واحتفاءنا بالحبّ والجمال والخير؟

هذا علاوة على غياب حرية التعبير، وإغلاق الآفاق أمام الكاتب، فما بالنا بالكاتبة؟ ما زالت لدينا في العالم العربي التابوهات الثلاثة الشهيرة؛ الدين والسياسة والجنس، حاضرة بقوة ومراقبة؛ من خلال السلطة أو سلطة المجتمع نفسه، ولكن ما يُسمى بالتابوهات الثلاثة هو محور الوجود وهو سؤال الكون الأكبر، أي ببساطة هو الكتابة. فنحن إذا اخترنا أبسط حكاية إنسانية، شريطة أن تتوافر فيها مقومات الحكاية سنجدها لا تخلو من الدين والسياسة والجنس، لكونهم مثلث الوجود – فلسفيًّا – ولا يمكن تجاهل تناولهم والتعبير عنهم.

في النهاية، لم يتبقَ ملاذٌ للروائي العربي إلا الرواية، لتتسلل عبر سطورها وشخوصها صفحات من يومياته غير المكتوبة والمخبأة في صندوق أسود بذاكرته. يُلبس أبطاله قناعه، ويلقي بظله الثقيل – أحيانًا – على الأحداث، ولذلك نجد أن أكثر الأسئلة التي تشغل القارئ لدينا: هل بطلة هذه الرواية متخيلة أم أنها هي الكاتبة نفسها؟ بعض القراء يقرأون وفي الأثناء يحاولون التلصص على مدى التشابه بين البطلة والروائية على الرغم أن هذا التصور قد يكون به ظل من الحقيقة، فالروايات لا تُكتب من بياض، وإنما من حياة كاتبها وحياة مَن يتقاطع مشوارهم معه، بالإضافة إلى مشاهد تمثل محطات إلهامه وصفحات من سيرته الذاتية. ورغم أن المعادلة الأدبية تقرّ بأن أيّ إضافة أو حذف من ملامح شخوص الرواية يجعلها على الفور شخوصًا جديدة، فإنه وحتى هذه اللحظة يعاني الأدب العربي من طريقة القراءة المتربصة والمترصدة بسبب غياب صورة الكاتبة نفسها.

وفي الواقع القارئ محقٌ، فهو لم يتعرف إلى الفروق الجوهرية بين أدب اليوميات والرواية، بينما من المستحيل أن يخلط القارئ الغربي بين المؤلفة وشخوصها. فحرية اختيار الكاتبة للجنس الأدبي الذي سيندرج فيه عملها تجعل الأمر واضحًا منذ البداية.

باختصار شديد؛ المناخ غير مهيأ لدينا لكتابة أدب اليوميات. فمع غياب حرية التعبير، والرد على الكتابة بالسجن واستباحة الدم أو في أحسن الأحوال التنكيل بالكاتب بمحاصرته وتهميشه، ستظل نوافذ الإبداع تُغلق الواحدة بعد الأخرى، كما حدث من قبل مع أدب الرسائل والاختفاء التدريجي لأدب السيرة الذاتية من أرفف المكتبة العربية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.