يوميات ضائعة

الأحد 2025/06/01
تانيا كيالي

– ي –

عادةً ما كنتُ أدوّن يومياتي، في مرحلةٍ من العمر، دون أيّ تشذيبٍ أو حرصٍ على نوعيّةِ ما أدوّنه في سجلاتِ اليومياتِ التي تعدّدت ما بين كتيّباتٍ لملاحظاتٍ قصيرةٍ أو دفاترَ متوسّطةِ الحجم، وفي النادرِ كنتُ أستخدم الأجنداتِ التاريخيّةَ السنويّةَ ذاتَ الطبعاتِ المخطّطةِ والمجدولةِ.

مضت سنواتٌ طويلةٌ إلى أن قرّرتُ الاكتفاءَ بتدوينِ اليومياتِ التي لها طابعٌ أدبيٌّ أو تتعلّقُ بفكرةٍ جديدةٍ ما. وإذا ما كان لزاماً عليّ أن أصفَ أشخاصاً فإنّني قد قرّرتُ أن ذلك سيقتصرُ على الأشخاصِ الذين يتركون ذكرياتٍ إيجابيّةً وليست لهم علاقاتٌ سيّئةٌ معي، وذلك لأسبابٍ كثيرةٍ سأوضّحها هنا.

– و –

لم أهتمَّ بنشرِ اليومياتِ التي أكتبُها. ربّما نشرتُ القليلَ منها. من المصادفةِ أن أغلبَ ما نشرتُه كان له علاقةٌ بالحربِ في اليمن. في الشهورِ الأولى من عام 1994 كانت اليمنُ تعيشُ أزمةً سياسيّةً وعلى وشكِ اندلاعِ حربٍ بين الشمالِ الذي مثّله الرئيسُ صالحٌ والجماعاتُ والأحزابُ الإسلاميّةُ، والجنوبِ الذي مثّله الحزبُ الاشتراكيُّ اليمني. في ظلِّ هذا التوتّر كتبتُ يومياتٍ تصوّرُ الحالَ الذي كنتُ عليه وأنا أترقّبُ ما سيأتي، واخترتُ بعضاً منها بعنوان “في انتظار الحرب” وأرسلتُه إلى رياضِ الريّس ومجلّتِه “الناقد”، قبلَ اندلاعِ الحربِ. وقد نشرتِ المجلةُ اليومياتِ مبرزةً عنوانَها على الغلافِ بالتزامنِ مع نهايةِ اجتياحِ الجنوبِ وفرارِ قادةِ الاشتراكي.

بعدها، نشرت لي صحيفةُ “ليبراسيون” ترجمات ليوميات في عامي 2011 و2015. وكان ذلك بطلبٍ من الصحيفةِ بواسطةِ ناشرتي الفرنسيّةِ. وحينها طبعاً كان اليمنُ على وشكِ اندلاعِ حربٍ جديدةٍ.

– م –

من اليومياتِ التي لا أنساها، أنّنا كنّا مجموعةً من الكتّابِ والصحافيّين نتحلّقُ كلَّ مساءٍ عند شخصٍ يعتبرونه من المثقّفين والكتّابِ الفاعلين في المشهدِ الثقافي. كان بعضُنا لا يجدُ قوتَ يومِه فتجذبُه للمكانِ الأطباقُ الشهيّةُ والأشربةُ المتوفّرةُ! والبعضُ الآخرُ يأتي انجذاباً للقاءِ الأصدقاءِ وبعضُهم كتّابٌ وشعراءُ. كان المضيفُ يهيمنُ على تفاصيلِ الجلسةِ بآرائه البرقيّةِ والسريعةِ والتي نادراً ما يتّفقُ عليها البعضُ، إلى جانبِ طبعاً تندّره وسخريتِه على بعضِ المثقّفين الذين يشاركونه عضويّةَ اتحادِ الأدباءِ والكتّابِ اليمنيّين ونقابةِ الصحافيّين، أو أولئك الشعراءِ (الكبارِ) الذين التقى بهم في مهرجانِ المربدِ في العراقِ. ما كنتُ ألاحظُه هو أنّه كان يجلبُ معظمَ الصحفِ التي تصدرُ في اليمن، والتي كانت في وقتِ الربيعِ الديمقراطيّ، بعد إعلانِ الوحدةِ اليمنيّةِ 1990، كثيرة جدّاً. وكان ينتقي منها بعضَ المقالاتِ لأشهرِ الكتّابِ أو تلك الأخبارَ البارزةَ ليقرأها أحدُنا في الجلسةِ. كان يشيرُ إلى كاتبِ المقالِ الذي تعلو صورتُه الصفحةَ أو تتوسّطُها ويقولُ: هيا يا فلان، سمّعنا ما يقولُ هذا المخرّفُ أو هذا الأهبلُ أو هذا المتمرّدُ أو هذا عاصي والدبّة.. حسبَ ما يستحضرُ وقتها من وصفٍ. وبعد أن يقرأَ الشخصُ المختارُ المقالَ، يتساءلُ: ألا يحتاجُ هذا ال… وال… لردٍّ يوقفُه عند حدِّه ويعلّمه أن… وأن… فيجيبه معظمُنا: بالتأكيد يحتاج… لا بدّ أن تردَّ عليه وتفحمه كعادتك… ويأتي بورقةٍ ويخرجُ قلماً من جيبه ويناوله إلى إذاعيٍّ كان عادةً هو من يتولّى كتابةَ المقالِ حسبَ ما يُملَى عليه من صاحبِ الرأيِ والمقامِ، أو هكذا كنّا نظنُّ. وهكذا بقينا على هذه الحالِ لفترةٍ. وكانت هذه المقالاتُ والردودُ تُنشرُ مع صورةِ وجهِه الوسيمِ.

بعد سنواتٍ طويلة عدتُ إلى اليومياتِ أو الليالي التي كنتُ أدوّنُها في دفاتري الصغيرةِ. ويا لهولِ ما اكتشفتُ من خلالِ التوصيفِ لما يدورُ وسياقاتِه. لقد اكتشفتُ أنّ هذا الكاتبَ الذي يحظى بعضويّةِ مؤسّساتٍ ثقافيّةٍ وشاركَ في مهرجاناتٍ أدبيّةٍ عربيّةٍ كان أميّاً لا يقرأُ ولا يكتبُ. ذهبتُ وقتها إلى الإذاعيِّ الذي عادةً ما كانت تُملَى عليه المقالاتُ، أو ما كنّا نظنُّه إملاءً، لأتحقّقَ من الأمرِ. فأندهشَ، كما بدا، من اكتشافي وحاولَ أن يتهرّبَ من قولِ رأيٍ واضحٍ، مع أنّ ارتباكَه وطريقةَ ردِّه وتفاصيلَ ما دوّنتُه تؤكّدُ ما استنتجتُه.

– ي –

ومن اليومياتِ التي لا أنساها أبداً وتمنّيتُ أنّني لم أدوّنْها، تلك التي كتبتُها إثرَ نقاشٍ بيني وأحدِ الناصريّين (نسبةً إلى جمالِ عبدِالناصر) في اليمنِ. يومَها كنّا في جلسةِ سهرٍ وجُلنا في السياسةِ كثيراً حتى وصلنا إلى جمالَ عبدِالناصرِ. كان صاحبي شغوفاً بعبدِالناصرِ إلى حدِّ الجنونِ ولا يقبلُ أيَّ نقاشٍ يقلّلُ من “عظمتِه”. كنتُ أعرفُ ذلك، أعرفُ أنّه منتمٍ لحزبٍ ناصريٍّ، ومع هذا حاولتُ أن أُخفّفَ من غلوّه. في لحظةِ انبساطٍ قلتُ له: “يا رجل، لا يصحُّ التأليهُ هذا لعبدِالناصرِ فهو ليس مقدّساً، وهناك أشياءُ في حياتِه يمكنُ النقاشُ حولَها.”

اشتطَّ غضباً. يومَها صرتُ أعرفُ معنى (اشتطّ) بشكلٍ مضاعفٍ. وكأنَّ هذا المعنى يشيرُ إلى شخصٍ غضبَ حتى تمزّقَ جسدُه. المهمُّ أنّه لم يصمتْ وأمرني أن أغادرَ صباحَ اليومِ التالي المنزلَ دونَ رجعةٍ.

كنّا شباباً ونسكنُ في شقّةٍ واحدةٍ. كانت الشقّةُ مستأجرةً من المالكِ باسمِه، وكأنّه وليُّ أمرِنا.

طلبتُ منه مهلةً حتى أبحثَ عن سكنٍ جديدٍ، لكنّه لم يقبلْ ورمى بأشيائي إلى الشارعِ.

– ا –

حين جئتُ إلى باريسَ في أكتوبرَ 2015، كانت لديَّ رغبةٌ في أن أكتبَ يومياتٍ عن حياتي العاديّةِ في هذه المدينةِ، وأدوّنَ أهمَّ ما أشاهدُه أو يلفتُ نظري، وأن يكونَ ذلك مصحوباً بالصورِ من تلفوني الذي كنتُ أستخدمُه لأوّلِ مرّةٍ في كتابةِ هذه اليومياتِ. لكن تلفوني سرعانَ ما فُقدَ في أحدِ الشوارعِ المزدحمةِ. وكلمةُ “فُقد” هنا تخفيفٌ مهذّبٌ، طبعاً، لكلمةِ “سُرق”.

مع ذلك، عدتُ للتدوينِ من جديدٍ على التلفونِ بالرغمِ من جهلي بتقنياتِ حفظِ النصوصِ أو استعادتها. لأفقدَ التلفونَ الثاني أيضاً وفيه ما فيه! حتى أنّني كنتُ على وشكِ إكمالِ روايةٍ استنتجتُها من هذه اليومياتِ.

ولشدّةِ ما آلمني هذا الفقدُ لكلِّ ما كتبتُ فقدتُ الرغبةَ في كتابةِ اليومياتِ أو حتى تدوينِ الملاحظاتِ.

– ت –

في ما كتبتُ هنا، سنجدُ أنّ بعضَ اليومياتِ قد ترمّمُ الذاكرةَ من خلالِ اكتشافِ سياقاتٍ لبعضِ الأحداثِ التي لم تكنْ واضحةً أثناءَ تدوينِها. لكنَّ بعضَ هذه اليومياتِ إذا ما قُرِئتْ وأُستعيدَ تذكّرُ أحداثِها قد تُصبحُ أكثرَ إيلاماً من لو كانت غيرَ مدوّنةٍ أو متروكةً للنسيانِ. هذا ما أفكّرُ به وأنا أستعيدُ يومياتِ الصديقِ الأميِّ في الحالةِ الأولى والصديقِ الناصريِّ في الحالةِ الثانيةِ.

فاليومياتُ قد تكونُ مهمّةً لحفظِ الذاكرةِ، لكن ليس كلُّ ما يحدثُ لنا من المهمِّ حفظُه، فالنسيانُ شفاءٌ من آلامِ الذاكرةِ وسطوتِها، أحياناً.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.