رسائل مهربة من شق في الجدار

دفتر يوميات
الأحد 2025/06/01
ابراهيم الحميد

صدى الحنين

 

لم أحسن الظن بفاتحة الصباح هذا، تتبعت خطوات الأمس ونظرت من النافذة المكسوة بالملل إلى ذات المناظر التي تتكرر أمامي منذ سنوات؛ ذات الشجر والسماء المحتارة أمام تبدل الفصول كامرأة تقف أمام خزانة ملابسها وتحتار ماذا تختار، هل تلبس القميص الأزرق الموشى بالغيم، هل تختار الرمادي المحايد، هل تمزج بين اللونين والطقسين هل، يليق هذا بهذا، هل تتناغم الألوان؟

الشوارع ذاتها المكررة كرسم باهت فرغت علبة اللون الأسود قبل أن يكتمل، شجر الزيتون على حاله أيضاً رتب نفسه بموازاة الشارع كي يحرس الطريق، أرصفة مكسورة الحواف مسكونة بالضجر، الوجوه الثابتة المتبدلة بتبدل أمزجتها الصباحية، السائق الذي يمارس مهنته القديمة في ابتكار نكات لا تثير ضحك سواه، تأفف البنت التي تجلس قرب الباب من كثرة توقف السيارة على الطريق لأنها في كل مرة تكون مضطرة للنزول.

كل شيء على حاله في الوقت المبكر وكل شيء تبدل حاله حين سمعت صوتك.

– صباح الورد

– والياسمين

– ماذا تفعل؟

– أتعطر بك

– أين أنت

– في حدائق الجميلة أرتشف الضوء من صوتك وأفكر بطعم التوت قبل القطاف وبعد القطاف وأفكر بحالات المادة حين يتحول الصوت إلى غيمة والصمت إلى قبلة والأنفاس إلى عطر والجوع إلى رغبة والعطش إلى فكرة بيضاء.

– متى نلتقي؟

– حين يفصح العطر عن مكون الغواية فيه وحين تدل حبة التوت قاطفها على مكمن الشهوة فيها.

– كم الوقت؟

– أزمنة من ضياع بعدد حبات الرمل المتسرب من عنق الزجاجة.

– ماذا ستكتب حين ينغلق الهاتف؟

– سأكتب صدى الحنين لصباح لم يكتمل!

10 نيسان 2025

***********************

زيارة

زيارة

ياسمين كنعان

إنها الليلة التي يقرر فيها بعض الموتى زيارتي، أصرف  البعض وأسمح لآخرين بالدخول، يطرق باب سهوي صوت إلياس خوري الهادئ العميق، وتزيح غباش النعاس عن عينيَّ صورة زكريا محمد، أعتدل في جلستي وأعتذر عن فوضى المكان، يدور حديث طويل عن رحيل طويل لا يعود منه الغائب إلاّ بإلحاح مشتاق حي، أستمع بانتباه لما يقصه إلياس خوري عن بيروت وشرفته وشغفه بالياسمين وفنجان قهوته الصباحي الذي يعدّه بنفسه قبل أن يباشر كتابة مقاله الصباحي على جهاز الحاسوب، أو حين يحاول إقناعي أن الليلة الأولى أو الثانية بعد الألف من كتاب ألف ليلة وليلة هي البداية لما يمكن أن يكون حكاية لا تنتهي أو كما وصفه (الكتاب الذي لا ينتهي) أو الكتابة التي تخلق قصة من فتات قصة وهكذا وهكذا.. إلى أن ينتهي الكتاب الذي لا ينتهي، أسأله كيف كتبت ما كتبت عن فلسطين ووصفت أماكنها دون أن تزورها؟ يجيبني عين المحب ترى، ربما هي بصيرة العاشق، من يحب يتماهى؛ تصير روحه أثيرية تطوف حول كعبة روحه ولم تكن فلسطين إلا كعبة الروح.

–  كيف ترى حيفا؟

–  مثل حمامة بيضاء.

– ويافا

– منارة تائه.

– واللد

– جيتو.

–  والقدس

– مسك البداية.

– وجنين

– خيمة الصمود في وجه الريح.

– ونابلس

– ضوء الزيت في القنديل.

– وغزة

– شراع سفينة كنعانية منحوتة من الزيتون العتيق.

– وبيروت

– مرفأ روايتي الأخيرة التي لم تكتمل.

لا أستطيع أن أعفيك من الأسئلة

– لماذا رحلت؟

– تعبت من كل شيء من تكاثر الحزن على الشواطئ من مبالغة الموت وخسارة رهانات الحياة.

– وماذا عن الليلة الثانية بعد الألف

– ستكتبها الطفلة الوحيدة الناجية من تحت ركام الموت.

– والساعة المقلوبة

–  حيلة الكاتب للتحايل على الموت…

لفافة التبغ بين أصابعه أحرقت ما تبقى من فضول ولم تترك لي إلاّ الرماد.

التفت إلى زكريا محمد وقد أسند رأسه على عصاه مثل راع من رعاة الناصرة يشهد ميلاد يسوع المنتظر، لم يلتفت إليّ حين سألته عن مهنته بعد الموت، ربما سخر من سؤالي فماذا يفعل الشاعر في أبديته غير تجريب أبجديات الموت، كان منهمكاً كما هي عادته برسم الخطوط والدوائر واكتشاف الرموز وحساب الأرقام كي يخترع سنة جديدة تصلح للحياة.

سرقته من خياله، وضعت بين يديه كومة أسئلة

– وماذا عن نسرين؟

– بنت الحكاية، ضرورة شعرية، تمويه لغوي، لعبة تبديل الحروف.

– ما شكل الأبدية

– متلونة مثل حرباء.

– كم سلة من القش يصنع الموتى؟

– ما يكفي لموسم التين القادم حين تتحرر البلاد.

– أي زهرة تنمو على المقابر؟

– عصا الراعي.

–  كيف يتخاطب الموتى بالإيماء

– ما لغة الشعر هناك؟

– كنعانية من غير سوء.

–  من يوصل بريد الأحياء للموتى؟

– طائر الفلامنجو.

– ما شكل ظلال الموتى ؟

– بنفسجي له انحناءة خفيفة مثل حدبة طفيفة في الوقت.

– والصوت

–  خشخشة أوراق شجرة الجاكرندا.

– لماذا رحلت؟

– أردت أن أعاين الأبدية عن قرب واقتنعت بفكرة البقاء بالقرب من أصدقائي القدامى.

– ماذا أقول لنسرين حين تسألني عنك؟

– أمنحها حرية اختيار اسم آخر يليق  بحكاية أخرى لم تكتب بعد..

– إلى أين تذهب لم يكتمل نصاب فضولي بعد

– أفتش عن نبتة برية تعالج داء النسيان.

4 نيسان 2025

*************

ابراهيم الحميد
ابراهيم الحميد

عادات القرية

هناك عادات في القرية لا يمكن نسيانها لا بمرور الزمن ولا بتبدل الأماكن، كأن تلقي السلام الحار على كل عابر أو تتجاذب أطراف الحديث مع الجارة الأرملة التي تحرس زقاق الذاكرة، أو تقدم لنفسك دعوة سخية لاحتساء فنجان قهوة عند الجارة الوحيدة دون استئذان مسبق، أو تستعير رغيف خبز أو كمشة ملح أو طنجرة كبيرة دون أن تشعر بالحرج.

إنها القرية حيث ولدت وحيث كبرت وحيث عقدت صداقات مع أولاد الحارة الأشقياء.

تموت القرية في داخلي كلما طال أمد البعد وكلما رحل معمر، تموت القرية كلما كبر حزن الأصدقاء القدامى وكلما عشش النسيان على العرائش، تموت القرية في داخلي حين تبدو علامات النسيان المرضي واضحة عليَّ فأسأل كما كان يسأل جدي عن المرأة التي طلقها زوجها وحين تصفعه الإجابة أنها ماتت يلقي عصاه على الأرض وينهال علينا بالشتائم انتقاماً من ذاكرته الخائنة.

تموت القرية في داخلي لأنني أردت لها أن تموت بالنسيان، فلا أحد يتذكر البنت التي كنتها لا بشعرها القصير ولا يوم صار لها جدائل.

هناك عادات في القرية لا يمكن نسيانها كأن يتكفل البعد بمحو أقدام البنت التي كنتها عن كل الشوارع الترابية ومن كل الزقاق والتلال ومن ذاكرة الجارة الطيبة.

الأول من آذار 2025

*************

الزمن الضائع

انتهى الدوام قبل موعده بساعة، كسبت من عمر الزمن الضائع ساعة أضيع فيها في شوارع المدينة وأتوه فيها عن طيب خاطر وأراقب تبدل ملامحي على زجاج محالها التجارية وأستنشق فيها مزيج روائحها المتعددة.

ساعة مسروقة من زمن سريع أطلق فيها لخيالي العنان، يدخل فيها خيالي لا أنا محلات الملابس يلبس ما يشتهي ويأخذ رأيي الذي يتبدل بتبدل الملابس، اشتريت الكثير ولم أخسر قرشاً واحداً من جيوبي الفارغة، احتسيت من وراء الزجاج فنجان قهوة وأكلت قطعة من الكيك المزين بالكرز.

ساعة مسروقة من فرح كنت برفقة نفسي ولا أحد، انتعلت الكعب العالي وتمشيت في ممرات المول وجذبت الأنظار ووزعت ابتسامتي على المارة دون حساب، لم أحسب الدقائق ولم أكترث بالثواني، ولم أحاسب نفسي على إسرافها ولم أقمع خيالي.

ساعة مسروقة من زمن مر تمر دواليبه على جسدي وجسد الوقت ولا يبقى منا إلا صورة امرأة متروكة على زجاج المحلات وخطوة عابرة في الممر الطويل.

ساعة مسروقة من عمر نسيت فيه مشية امرأة واثقة من حلمها وغدها وتقمصت مشية متلكئة.

ساعة ضيعتها في التسكع مع خيالي، سرية تماماً وبعيدة عن أعين الحرس.

ساعة لم تنقص حزني ولم تضاعف فرحي، أنفقتها بسخاء كي أقنع نفسي أن لدي ما أنفقه..

3 كانون الأول 2024

***********************

نكره العالم

نكره العالم كل على طريقته:

يكره الفقير العالم حين يدس يده الخشنة في جيبه ولا يعثر على قطعة نقود واحدة لشراء رغيف خبز، البنت التي أكلت الحرب جسد حبيبها وسكرت بنبيذ دمه وترنحت بلا نهاية تكره العالم أيضاً، المرأة المعلقة على نافذة الانتظار مثل قطعة قماش بالية تكره العالم،  ساعي البريد الذي سرقت مواقع التواصل وظيفته يكره العالم كما يكرهه بائع الجرائد أيضاً، وأنا، أنا أكره العالم ولي أسبابي أيضاً، أكره العالم لأنه جذبك إلى نهايته ونسف البعد كل احتمالات اللقاء، أكره العالم لأنني لا أستطيع أن أخطو بضع خطوات قصيرة خارج القفص؛ ثمة ما يكبل يديَّ وأقدامي ويسحبني بعنف إلى الوراء، أكره العالم الوحش الذي علقت بين أنيابه مثل عصفور صغير يكافح بيأس وحذر كي لا تتهشم أجنحته ويحلم وحلم العصافير الطيران، أكره العالم الذي دسني في جعبة الغول وأفرغ جيوبي من كل شيء حتى فتات الأمل، أكره العالم الذي لا يفهم ما تكتبه امرأة خاضعة لقوانين العتمة والوقت المقتول على شرفات الليل وشبابيك النهار، أكره العالم الذي يريدني بوجه من شمع ونظرة جامدة وابتسامة زائفة وأصابع باردة مثل لوحة عتيقة يسكنها الغبار، أكره العالم كما يكرهه الفقير المعدم وساعي البريد العاطل عن الأمل والبنت الثكلى والمرأة المعلقة على حبل الانتظار… فأنا كل هؤلاء وكلهم أنا والقائمة تطول كلما حدقت أكثر في هذا العالم الهاوية وكلما وقفت على محطاته المهجورة بلا هدف فلا الماضي يعود ولا الحاضر يأتي ولا يأتي القطار.

12 تشرين الثاني 2024

*******************

جملة شعرية

لا يمكنك هذا الصباح أن تفكر في جملة شعرية وأنت تقطع الشارع الموحل الذي كشطت الجرافات وجهه، يمكنك فقط أن تفكر كيف تنجو من الحفر دون أن تبتل أو تقع أو تتسخ ثيابك ويمكنك أن تسرق من عمر الحرب لحظة وتستعيد أيّ وجه حبيب أو كريه لتشتاق أو تلعن لا يهم، المهم أن تتجاوز هذا الجمود المهيمن على ساعاتك وأيامك.

يمكنك أيضاً أن تكون أكثر اندفاعاً نحو ماضيك البعيد القريب وتسترجع أغنية لفيروز حتى لو كان الطقس غير ملائم للحب والذكريات والحنين، وحين تهزك الذكرى مثل غصن مكسور يتدلى تهمس لنفسك زاجراً ومؤدباً مضى زمن الشوق وتبخرت كلمات الأغاني… إنها الحرب اللعينة التي صمّت طبولها آذاننا وغيبت وجه المدينة الجميل، غابت المقاهي عن أرصفة الطرقات المتكسرة لكن صوت فيروز يأتي من مكان ما، من زماننا القديم، من طاولة تبدلت ملامح العشاق عليها، فلا نحن نحن ولا الحبيب هو الحبيب، إنه زمان آخر لا يصلح لنا؛ لا أفراح تنتظرنا على المفارق، لا انتظارات مبللة بالوعود، لا شي إلاّ الموت.

4 تشرين الثاني 2024

******************

رسائل مهربة من شق في الجدار

عرفته عن قرب؛ لا أقصد قرب المسافات فأنا المنفية خلف جدران العادات والتقاليد والمسافات والأسلاك والألغام والبارود والسكين وحبل المشنقة لا يمكن لي أن أتعرف على أيّ كائن بشري بمسافة فسحة بين اثنين على مقعد في حديقة عامة تظللها الأشجار وترفرف فيها الطيور بحرية، النافذة الوحيدة المشرعة للتعارف هو هذا الحساب الأزرق على الفيس وما عدا ذلك كلها نوافذ مغلقة.

لا أحتفظ بمذكرة ورقية لأكتب تاريخ التعارف ولا مذكرة إلكترونية حتى، فكلّها أدلة قطعية وحجة عليّ أنني اقتربت من الممنوعات والمحظورات والنار.

يمكنني أن أؤرخ بجائحة كورونا كما كان الأجداد يؤرخون بالثلجة الكبرى التي ضربت البلاد أو بالزلزال الكبير الذي شطر سور المدينة أو حتى بسرب الجراد الذي غزا البلاد وأكل الأخضر واليابس أو بنكبة البلاد أو نكستها… وكل هذا من باب تقريب الفكرة ولا أقصد من ورائه التأريخ وربما أردت أن تكون شهادتي أو كتاباتي مقنعه وربما سأتخلى عن فكرة التأريخ والتوثيق وأخلط الواقعي بالمتخيل كما أفعل عادة في لعبة الكتابة أو أدخل في حلم مفتوحة العينين وأدعي الكثير وربما أريد أن أُضيع الحقيقة كي لا تكون شهادة إثبات عليّ وورقة رابحة في يد من يتربص بي.

كان لطيفاً كأي بطل خرج من رواية ، وكل ما أردته هو اللطف، وكنت سأموت بسببه، هل تصدقون، كيف يمكن لامرأة أن تموت بسبب بطل خرج من رواية وسيعود إليها بعد أن تنتهي الرواية كأي كائن من حبر مآله الورق، قلنا الكثير وبحت بالكثير كانت شهيتي مفتوحة للبوح، التقينا في أماكن لا يمكن تخيلها، على شاطئ بحر لا أعرفه إلا على الخريطة، تقاسمنا فنجان قهوة على شرفته البعيدة، عرفت مواعيد صباحاته وعرف مواعيد صمتي وقيودي. أحببت فكرة الحب حب هذا الكائن الذي لن يكون في متناول اليد، أحببته صورة معلقة في الخيال، أحببت فكرة السر الكبير.

18 أيلول 2024

**************

حفرة

لا تؤرقني فكرة الموت؛ هي نهاية حتمية لكل شيء حي، ربما أنا أيضاً متصالحة مع الفكرة ولكن ما أعجز عن تصديقه أو القبول به كإحدى المسلمات أن يتم احتجاز جسدي في حفرة يحيطها التراب من جميع الجهات ولو كنت أملك حق ترك وصية كنت سأطلب أن أتلاشى مثل ضوء أو أتناثر مثل رماد.

عشت ما يكفي من سنوات طويلة محتجزة بين جدران كثر ولم تجد نفعاً كل محاولات الخلاص ولم أفلح في كسر قفل واحد، فكيف أتقبل المزيد من الحفر والأصفاد؟

يصعب عليَّ أحياناً سرد الحكاية بحيادية تامة ويصعب عليّ التكلم بغير أناي كأن أكون الراوية لحكاية أعرف تفاصيلها وكأني لم أدخل في فصولها أو حبكتها ولم أكن البطلة التي تموت أو تنتحر في آخر الرواية لأبدأ بعد تشييع روحها بالكلمات حكاية أخرى، يصعب عليَّ أن أقول كان يا مكان في قديم أو حاضر الزمان بنت محتجزة لا تعرف أي وجه بشوش للحياة ويصعب عليَّ أن أحاكي كتاب كليلة ودمنة وأقول في غابة مّا حيث كانت المفترسات على هيئة بشر أو البشر على هيئة مفترسات كانت ثمة غزالة وحيدة في الغابة البعيدة وبينما كانت تقفز بين الحشائش اليانعة وحين تمادت في قفزها ووسعت خطاها قليلاً وقعت في قبضة القدر وحين عقدت الحيوانات محاكمة للغزالة لأنها لم تكن من ذوات المخلب ولا الناب قرروا أن يصنعوا لها سجناً لتكون عبرة لكل من تسول له روحه بملاحقة فراشة أو تتبع منبع الماء أو الذهاب نحو الضوء، وهكذا مرت الأيام وتناسى الجميع الحكاية كأنها لم تكن وظلت الغزالة أسيرة وكتمت الريح تنهداتها وتآمرت عليها الليالي ونسيتها الصباحات كأن غزالة لم تكن .

22 آب 2024

*************

تجربة مع الموت

قبل بضعة أيام كانت لي تجربة مع الموت، ربما هي المرة الأولى التي نكون فيها أنا وهو بمثل هذا القرب، لا يهم إن كنا لحظتها على خصام أو وفاق.

تنفتح ثلاجة الموتى، صرير انزلاق الدرج يزعجني ولا أدري إن كان يزعج الميتة أيضاً، ذبابة تحوم في الأجواء يمكنني أن أكتفي بكونها ذبابة لا أكثر ولا أقل ويمكنني تحميل المشهد أكثر مما يحتمل.

لا يمكنني تحديد مشاعري، تغيب الدموع وتحل الحسرة والكثير من الأسئلة، هل تراني، هل تسمعني، هل تكترث لأمر الذبابة، هل تزعجها برودة الماء أو سخونته، هل تشعر بالأيدي التي تقلب جسدها المتيبس وهل…؟

المرأة التي تغسل الجسد تقرأ ما تيسر من القرآن وأنا منشغلة بمتابعة تقليب الجسد وسكب الماء، لا أسمع الكثير وأحاول أن أرى وأسمع بحواس الجسد الذي فقد حواسه. القليل من الطقوس التي لا أفهمها وقطعة الصابون النابلسي تحل مكان الشامبو والبلسم ورفاهية (لوشن) الاستحمام.

لا يمكنني طرح الأسئلة في حضرة الموت يمكنني فقط وضع بعض الإجابات غير المقنعة والبياض سيد الموقف.

لا أحد يسأل الميتة إن كانت الوسادة الموضوعة في النعش مريحة أو كانت تلك وسادتها المفضلة أصلاً، اللحاف ثقيل والحرارة مرتفعة ولا أملك إجابة أيضاً.

يرفعون الجثة على الأكتاف وحين تُلقى عليها النظرة الأخيرة ويرتفع صوت أحدهم “سامحوها”، لا أعثر على كلمات ولا أملك الوقت لعتاب قصير، ولا أقول لها أني غضبت منها في يوم كذا وكذا، لا عتاب في حضرة الموت، أمام الموت تصغر الضغائن وقد تتلاشى وقد يبقى في القلب ما يتعب القلب.

وضعت حزني في وعاء جسدي وبكيت، لا أعرف إن كنت أبكي الميتة أو أبكي المواقف، شريط العمر أمامي واللحظات مبللة بالدمع.

27 تموز 2024

*************

نبش الركام

الحرب اللعينة غيرت عاداتنا يا صديقي؛ الشرفات الصباحية صامتة لا صوت فيروز ولا أقدام امرأة تضج على الشرفة، لا أنامل طويلة أو قصيرة ترتب أصيص الورد وتمنح العطر للياسمين، الشوارع حزينة إيقاعها الصباحي لا يشبه إيقاع الحياة، الناس أموات بأقدام متحركة، الموت يلعب الحجلة في الزقاق والصغار اختفت ظلالهم وغابت صيحاتهم، غاب العشاق عن المفترقات وقُصفت النوافذ والبنت الشلبية لم تعد مشغولة بضفائرها وعطرها وطلاء الأظافر؛ هي الآن مشغولة بجالون الماء ورغيف الخبز لتعيل جوع أيتام كثر، عربات تحمل الجثث ولا تبيع الكعك المقدسي على جوانب الشوراع، زنانة تلوث الأفق، طيور معدنية تزعق بالموت والخراب… الحرب اللعينة يا صديقي غيرت عاداتنا وبدلتها صار طقسنا اليومي نبش الركام.

12 تموز 2024

**************

نازحة في خيمة

أشياء قد أفعلها لو كنت نازحة في خيمة؛ في الصباح الأول للنزوح سوف ألعن آلاف المرات الخيمة وأثور مثل زوبعة في وجه هذا الوجود المرير؛ أتفقد الأشياء التي أفتقدها، أشياء لم تكن تعني الكثير لكنها متوفرة بشكل بديهي كحبل الغسيل وكيس الملاقط وفرشاة الشعر ومعجون الأسنان وحوض المجلى وباب الحمام و…

إنه صباح الخيمة التي لا تطل إلاّ على خيام وكلها تحجب مشاهد الأرض والسماء والرمل وما تيسر من ضوء وشجر.

في الخيمة سوف تتغير عاداتي؛ أغمض عيني حين يصحو الصغير وأدير ظهري لأنه يطلب ما لا أستطيع خلقه هنا من تراب أو عدم، كشربة ماء أو زجاجة حليب دافئة أو حتى قصة عن ليلي والذئب.

في الخيمة تتغير أخلاقي وتضيق ويبدأ الشجار على أي شيء ومن لاشيء؛ على كيس طحين أو سطل ماء أو كومة حطب أو حتى قداحة، وقد أمرغ وجه زوجي في الرمل لأنه يطلب كوب شاي قبل انتصاف الليل بقليل.

في الخيمة تطفو الأحقاد القديمة والجديدة، تماماً مثل مياه الصرف الصحي لأنه لا يوجد أي تصريف منطقي لها، تتراكم وتتراكم وتنبعث مثل الجحيم دفعة واحدة، سأفعل ما لم أكن معتادة على فعله؛ هذا نتاج القسوة والقهر والذل وضيق الحال.

8 تموز 2024

*************

ابراهيم الحميد
ابراهيم الحميد

إجابة واحدة

خاطبتك كثيراً، مباشرة وبشكل موارب، خاطبتك بأسماء عديدة وخلعت عليك صفات تشبهك ولا تشبهك، كنت أنت المتعدد في صورك وأسمائك وحضورك وعجين الواقعي بالمتخيل، فإن سئلت من أنت من هؤلاء، ما لون شعرك، ما شكل وجهك وعلى أي هيئة أنت،  خانتني الذاكرة وعجزت عن رسم ملامحك…صار لا بد من جهاز طرد مركزي ينزع عنك خيالي ويجردك مما ألصقته بك من ملامح وصفات ومعاني.

نسيت طينتك الأولى، أنت كل هؤلاء لا أسماء نهائية لك ولا ملامح ثابتة، مثل عمل فني قابل للتعديل بالحذف أو الإضافة، مثل مسودة نص، أو طين تمثال أو رخامه أو لوحة بيضاء. مثل واقعي خاضع لسلطة الخيال وسطوة الأفكار وحيلة الأصابع.

لا أدلة قطعية على وجودك ولا نفي أكيد وربما أنت في كل هذا أحد مخلوقات الوحدة والخيال والليالي الطويلة المعتمة.

كلما أطلت التحديق في عدم الأشياء رأيتك، كلما صرفتك من تفكيري عدت تلح بالحضور، مثل فكرة الموت أنت ومثل وسواس قهري أحياناً.

لا شفاء منك ولست مريضة بك، أنساك في خضم انشغالاتي وأضيّعك مثل القلم الذي وضعته في لحظة سهو بين خصال شعري وأنا غارقة في التفكير بك في لحظة جذب أو كتابة.

أستعيدك حين أتمدد على سرير الخيال مستعينة بصورتك للسفر والتحليق بعيداً، لا أخبار أكيدة عنك ولا عناوين وكل من مارسوا الوشاية يجهلون حقيقة وجودك؛ منهم من يؤكد ومنهم من ينفي بصورة قاطعة، أما أنا فلا أدخل في متاهة التأكيد أو الإنكار، صارت تعجبني اللعبة!

عقيمة وحمقاء تلك الأسئلة التي لا تحتمل إلا إجابة واحدة.

25 حزيران 2024

كاتبة من فلسطين مقيمة في جنين

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.