يومياتنا؛ آثارنا، فمن يقتفيها؟

الأحد 2025/06/01
حسام بلان

خُلق الإنسانُ مدوِّنًا لليوميات، حتى قبل اكتشاف الأبجديات؛ فرأيناه ينقشها حينا، ويحفرها أحيانا، كما كشفت لنا جدران الكهوف التي سكنها، فنقلت لنا مغامراته ومطارداته ومعتقداته. ثم تأتي الكتابة فيستخدم السومريون والمصريون القدماء الألواح الطينية والبرديات لتسجيل الأحداث اليومية، ولا يكتفون بتسجيل ما كان يتعلق بإدارة الحياة أو شؤون الدين، بل تخطوا ذلك لتفاصيل لم ينسوها، حتى رأينا برديات ساخرة، وقصصا فكاهية، كأنها رسمت على مقاه شعبية قبل آلاف السنين.

أعود من رحلة ما، ونادرا ما أتخلص من القصاصات التي جمعتها على مدار الأيام، فأنفض حقيبة اليد لأفرغها، فيقع مفتاح بلاستيكي لغرفة فندقية، وورقة ملاحظة دونتها زائرة لم تجدني، وفاتورة مطعم بحروف لا أقرأ بها، وإعلان على بطاقة بريدية، وبرنامج حفلة للمولوية، وتذكرة حافلة، وأخرى لمتحف، وشريحة هاتف من بلد زرته، وشريط يحمل بطاقة المؤتمر واسمي، ومنديل يحمل شعار مقهى ما، وقلم مطبوع عليه اسم المهرجان، وكتيب ما أو ميدالية، وكل من هذه الندف يمكن أن تكون سطرا في متون التدوين.

هذه القصاصات – الورقية على الأغلب – يمكن أن تجد مرفقات أخرى، تعين على الكتابة في التذكر، فأنا معتاد على شراء الجرائد المحلية لأيام زيارتي، حتى في الدول الناطقة بلغة لا أجيدها، فهذه الصحف المتخمة بالأعمدة، تحمل آراء، وأفكارًا، وتنقل وقائع يستحيل على صاحب برنامج متخم أن يتابعها كلها، بعينيه، فأراها بعيون أهلها، كما لو كنت أصغي لثرثرات وأحاديث المدينة.

وإذا كانت تلك (الأغراض) أمطرتها سحابة الحقيبة الصغيرة، فقيمة حقيبتي الكبرى لا تخفي اللقى؛ كتبٌ أهداها مؤلفوها، فإذا هي تواصل معي حوارات كتابها، حتى تستريح على رف ما بمكتبتي، وها هي صخرة من معبد بائكدامسا قرب السحاب بجبل كوري، سمح لي الرهبان بأن آخذها، لأضعها على مكتبي، وأمسها، فأستعيد برودة الأجواء، وتدق بأذني مطرقة على جرس نحاسي، فضلا عن هدايا تذكارية، ومقتنيات دبرت شراءها، لكي آخذ من روح الأمكنة قبسا يضيء الذاكرة أو يشعل الحنين، ويعين على رحلة الكتابة.

لا أدري لم ذكرتني القصاصات التي أشرت إليها، بأخرى من قماش، أو “قصاقيص” كما نقولها بالمحكية المصرية، أليست اليوميات استدعاء للحكايات وتدوين لها؟

كعادة كثيرين من المصريين في مناوراتهم الاقتصادية للتحايل على المعايش، كان أبي شغوفا بإعادة التدوير، ويعمد – في وقت فراغه من وظيفته الحكومية – إلى أعمال يدوية كثيرة، مادتها خامات بلا حدود. إلا أن أبرع ما كان يحوله قصاصات القماش: فلا يكتفي بأن يطلب من الترزي بقايا من القماش الذي أحضره له ليفصل له سروالا أو قميصا، بل يعود بكومة أخرى لقصاصات قماش باق لم يطلبها الآخرون، ثم يضيف من الثياب ما ضاق علينا، فلا نستخدمه، ويجلس ليحول تلك البقايا إلى شرائط قماشية، يربط طرفها معا، كأنها بطول المسافة للسماء، لتتكون عنده كرات ، يدفع بها لصاحب نول تقليدي في الجوار، فإذا بها بعد عدة أيام تعود إليه سجادة لأريكة، أو مسندا لكرسي، أو دواسة لقدم.

كانت لحظة سعادتي تصل إلى ذروتها حين أعثر بعين متأملة في الشرائط المغزولة على أثر من قميص لي، ويبدو بساط أبي القماشي سحريا وهو منسوج من ألوان وحكايات، ارتداها أحدهم ذات يوم! ما بين القصاصات والقصاقيص تدور الحكايات، وهي التي تجعل من اليوميات فنا ذاتيا، يختلف محتواه عن ذلك المنقول من كتالوج الأسفار اللامع، فالتدوين الحي مرآة للرحالة، فكم من شخص يمر بالشارع ذاته، فيرى ما لا يراه عابرون سواه، لأنه يرتدي نظارات مرشّحة، ترى العالم من خلال تجربته الذاتية، واعتدت أن أقول إننا حين نسافر لا نكتشف الأماكن، بل نعيد اكتشاف ذواتنا.

حين انتشر وباء فايروس كورونا على النحو الذي شهده العالم وجعله قاطرة تجر وراءها عربات لانهائية من الأسئلة التي تحتمل الردود وعكسها؛ بدا أن العالم أغفل الجانب الإنساني، وربما طرح الحظر المفروض سؤالا عن إمكانية إعادة اكتشاف المرء لإنسانيته مجددا، أم أنه الطوفان الأخير الذي سيعلي من مادية الحياة، وأنانية الإنسان، واستعداده للتضحية بالآخرين كي يعيش، لا أن يضحي بنفسه كي يحيا الآخرون.

كان السفر ممنوعا، وانحبسنا، فجاءت يوميات الرحالة وكأنها تلقي دلالها في الذات المأسورة. فالإنسان المبدع، سواء كان يكتب أو يؤدي دورًا مهمًا في سائر الآداب والفنون الجميلة، عليه أن يواصل، فنحن نحاول ألا نكون مجرد جثث طارئة على الحياة: تولد وتأكل وتتكاثر وتموت، الإسهام الذي تقدمه المنجزات الفردية للإبداع، هي التي تشكل جُمّاع الثقافة ومجتمع الحضارة ولذلك لا يوجد سؤال عن الانقطاع، وإنما عن اليقين ما بعد كورونا، يقينيات العلم، الذي أصبح من البديهيات المنقذة للحياة برمتها، فلا نجاة بلا علم، لم نسمع بعد عصر المعجزات عن رجل دين، أي دين، يشفي شقيقه في الإنسانية، ولكن كلماته قد تمنح المتألم والمتحضر سلوانا، ولَم نرَ شاعرًا أو روائيًا تشفي نصوصه البشر، لكن تلك النصوص تلهم المقاومة والاحتمال، ولكن الجميع؛ رجال الدين والآداب والفنون ينتظرون رجال العلم، لكي يأتوا بما يواجهون به الفايروس القاتل، لتستمر الحياة.

من الطريف أن اليوميات دومًا تشير إلى دليل، شخص ما يقودك في أرض غريبة، ينطق أصحابها بلسان أعجمي، وأذكر أنه على مدى أكثر من خمسين عامًا، وفي أكثر من ألف رحلة ورحلة، وكنت حينها أحد مستطلعي مجلة العربي الكويتية، رافقت بعثات المجلة إلى قارات العالم مجموعات من الأدلاء، من كل الأجناس، والجنسيات، والألسن. دليل يتوسط بين الرَّحالة العربي، وبين لغة قد تكون مجرد لهجة محكية، أو يستأذن لك حين ترغب في صورة غلاف من بين ستمائة غلاف ظهرت على وجه «العربي»، أو يقودك إلى لقاء مسؤول، أو يدلك على بيت عائلة بسيطة أو أسرة موسرة هناك.

في كل مدينة كان هناك دليلٌ أو أكثر، أتذكر في أحمد آباد بالهند دليلنا «رزّاق»، وفي بكين «ميا»، وشمال الصين بشينجيانج القشغري «محمد عزت»، وفي بيشيلية الإيطالية «جوليا»، وفي إستنبول «سميرة»، وفي أنقرة «حسن”، وفي قازان عاصمة تتارستان بالاتحاد الروسي «ليليا ورينات ورئيسة خانوم» وفي مدن برلين وبون وميونخ وفرانكفورت وهامبورج ودورتموند وكولن الألمانية طائفة من أدلاء ألمان وعرب متجنسين، وفي ورزازات المغربية «أحمد الحساني» و«الجلالي مصطفى»، وفي سيئول «تشوي أبوبكر، وجنان، ويوسف عبدالفتاح»، من بين كثيرين، هذا غير عشرات الأسماء الأخرى من الأصدقاء في مدن عربية وغربية يضيق المقام لذكرهم.

كان سجن اللغة له مفتاح وحيدٌ مع الأدلاء؛ وعلى سبيل المثال، ففي مدينة سورات بولاية كوجرات الهندية، كان صاحب ورشة النسيج يحدثنا باللغة الكوجراتية، فيترجم دليلٌ محليٌّ حديثه إلى اللغة الهندية، وينقلُ لنا دليلنا الحوار بالإنجليزية، لنحكي القصة لقراء «العربي» بلغتنا الجميلة!

حسام بلان
حسام بلان

من الطريف أننا نعودُ أحيانا لنكون مع دليل بعثةٍ سبقتنا، كما حدث حينما كان دليلنا في الخرطوم وحولها، الإعلامي محمد جبارة، بل والأطرف أن نلتقي مجددًا بعد عشرين عامًا أو يزيد بدليل رحلة سبقت، مثلما التقينا في مسقط رأس الأمير تيمور بمدينة «شهرسبذ» في أوزبكستان بالسيدة «مولودة»، وبين الصورتين عمرٌ كامل!

أتذكر رفاق الدروب، وأدوِّن سردًا لأدلة الرحلات، شكرًا لرفيق رحلتنا الحالية الطويلة من مكناس إلى مرزوكَة في واحة زيز، وهو الناقد والصحافي الدكتور حسن مخافي أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب في مكناس، وفيه اجتمعت عدة شخصيات: دليلٌ عالم بالمكان الذي ينتمي إليه، وخبير بقيادة السيارة، ومتطوع بدفع تأمينها حتى نعود.

الخلاصة هي أن يومياتنا لم تعد مجرد سجل حضور وانصراف من الحياة، وإنما من الأجدى أن تكون حياة في ذاتها، ولا يمنحها حياتها إلا الاختلاف والرؤية المستبصرة. من يومياتي الحزينة أنني كنتُ أعمل على رواية أجتاز فصولها بصعوبة وأتألم لمصير كتابها، لم أكملها، فالآلام التي جلبتها كورونا جعلتني أعيد التفكير في مشاريعنا الأدبية الكتابية برمتها، ولهذا أرى أن (عطايا الخلايا الجذعية)، الذي ترجمتُه للعربية، هو كتاب هذه المرحلة، فالإنسان الذي يسعى لإطالة عمره، والعيش بصحة مكتملة، عليه أن يسأل ماذا يفعل لكي يجعل من تلك الحياة والعمر المديد أمرًا يستحق..، وما هي اليوميات التي ستعيش بعده، لتروى عنه.

الآثار وراءنا

في حكاية “هانسيل وغريتل” (Hansel and Gretel)، وهي من الحكايات الشعبية الألمانية التي جمعها ونشرها الأخوان غريم (يعقوب غريم وفيلهلم غريم) عن الطفلين، هانسل وغريتل، اللذين تأخذهما زوجة أبيهما إلى الغابة وتتركهما هناك، ليلقي هانسل، بحنكته، خلفه قطعًا من الخبز أو الحجارة ليستطيعان العودة إلى المنزل. إلا أن الطيور تأكل قطع الخبز، مما يجعلهما يضيعان في الغابة، حيث يعثران على بيت مصنوع من الحلوى تسكنه ساحرة شريرة تحاول أكلهما. تنجح غريتل في التغلب على الساحرة، ويتمكن الطفلان من العودة إلى منزلهما ومعهما كنز من الذهب.

وفي الأغنية الكورية My Mother, the Reed” (엄마야 누나야 갈대밭에)”، وهي أغنية فلكلورية قديمة. تتحدث عن قصة تحمل دلالة حزينة عن التخلي عن الأمهات المسنات في الجبال أو الغابات، وهي مستوحاة قديمة في بعض الثقافات. والأم تترك وراءها آثارا ليعود الابن فلا يتوه هو من تقاليد ومرويات نفسه، خوفا عليه.

وهناك قصة فلكلورية يابانية مماثلة اسمها “أوبا سوتي” Ubasute، تتحدث عن ممارسة أسطورية حيث كان يتم التخلي عن كبار السن في الجبال ليموتوا عندما يصبحون عبئًا على أسرهم. في بعض النسخ، تضع الأم علامات أو تلقي وراءها آثارًا ليتمكن ابنها من العودة ولا يضيع، لكنه عندما يفهم مغزى الرحلة، يقرر عدم التخلي عنها ويعود بها إلى المنزل.

اليوميات التي نكتبها هي تلك الآثار وراءنا التي ستعيدنا مطمئنين إلى وطن الذكريات.

شاعر ومترجم من مصر

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.