ماذا أفعلُ هنا؟

الأحد 2025/06/01
رافي ساركي

 

في السادسة والنصف صباحاً استيقظتُ. بقيتُ مستلقياً في السرير المعدنيّ، الخاص بالثكنات أو المشافي المتهالكة، وأنا انظر إلى السقف. واكتشفتُ حينها تقشّر الكلس عن سقف الغرفة، وفكرتُ بأنّ الكآبة وحدها هي التي قشّرت الكلس الخفيف للسقف. كآبة الناس الذين نجوا من الغرق في البحر أو النهر، وغرقوا في الكآبة هنا. ويبدو أنني مثلهم صرتُ أسألُ نفسي: “ماذا أفعل هنا؟”. كان هذا السؤال هو الذي يجول في بالي، وسيبقى، ربما، يجول في خاطري، ويقودُ حياتي، حتى آخر العمر. بالفعل، ما الذي جاء بي إلى هنا؟ لماذا عليّ أن أترك كلّ شيء ورائي من أجل أن أعيش مع زوجتي وطفليّ بعيداً عن الحرب وأخطارها؟ لماذا تركتُ كلَّ شيء، كلّ شيء. أليست الحياة الجديدة، ومن تحت الصفر، هي حرب أيضاً ولها أخطارُها؟ قد تكون حرباً بلا دماء. قد يُسمّونها حرباً نفسيّة، ولكنّها حرب على كل حال. الحرب فيها نجاة، بطريقة أو بأخرى، ولا أعرف إن كانت هناك نجاة من الكآبة في بلد غريب.

أستطيع تفهّم طلاب العلم الذين جاؤوا إلى هنا لكي يُكملوا تعليمهم. هناك أهداف واضحة لديهم، وطرق واضحة، أو ستتوضّح، عليهم السير عليها ومن أجلها. ولكنهم يعرفون، في النهاية، بأنّهم سيعودون إلى دولهم، ومدنهم وقراهم وأحيائهم وبيوتهم وأحبّائهم، وسيجدون كلّ شيء في مكانه، وسيلتقون بمن كان ينتظرهم طوال الوقت.

أما نحن فقد كان علينا الهرب خلال ساعات قليلة، ومنّا مَن هرب قبل لحظات من موته المحتوم، لذلك أخذ معه فقط: اللاشيء.

هل بقيَ مَن ينتظرنا هناك؟

هم سكنوا في شقق صغيرة وربّما في غرف مشتركة، اقتصاداً للمصاريف، ولكن لم ينظر إليهم أحد على أنّهم “لاجئون” يعيشون على أموال الضرائب. لم يتعرّضوا للضرب أو تُحرق “كامباتهم” بمن فيها. لن يكون ممنوعاً عليهم التنقل في كامل البلاد، ولن يُجبروا على العمل في وظائف لا يفهمون فيها شيئاً.

لم يُحركوا أياديهم ببلاهة في محطات القطارات؛ لأنهم فقدوا فجأة اللغة التي كانوا يظنون بأنّها ستكفيهم حتى آخر العمر.

لم يُقبّلوا أيادي المُهربّين الذين قادوهم إلى الموت بمهارة فائقة. لن يكونوا مثلنا؛ نحنُ أولئكَ الذين لم يجدوا الوقت لدفن موتاهم؛ فحفروا قبوراً مرتجلة في مياه البحر ورموا فيها مَن لا يُمكن نسيانهم أبداً.

ماذا أفعل هنا؟ جعل هذا السؤال صباحيَ الأول في “الجنّة” سيّئاً. تعكّر مزاجي وأنا أجهّز نفسي لكي أذهب إلى إفطار اليوم الأول، وبعد الإفطار عليّ الذهاب لاستلام أغراضي الخاصّة ومفتاح الغرفة التي سأقيم فيها.

كان سرير (ر) فارغاً ومرتّباً. أين ذهب هكذا مبكراً؟ كيف لم أشعر باستيقاظه وحركاته وهو يذهب إلى عشاء البارحة ويعود، ويبدّل ثيابه ويذهب إلى الحمّام مرات عديدة؟ هل نام في مكان آخر؟ هل عثر على أحد زملائه الذين هربوا معه من سوريا إلى تركيا إلى اليونان حتى ألمانيا؟

***

في المطعم تعرف ما معنى أن تكون لاجئاً؛ تقف في صفّ طويل مع عشرات الأشخاص، وربّما المئات، يلبسون ثياباً من أزمنة مختلفة، ويتحدّثون عشرات اللغات. تقفُ وفي يدك ورقة مدوّن عليها اسمك وبلدك ورقمك وما تستحقّه من وجبات خلال إقامتك في هذا المكان. تحملُ ورقة صغيرة لكي تدلّ عليك في هذا البلد الواسع والغريب، في الوقت الذي محت، هذه الورقة نفسها، مهنتكَ ومهاراتك وشهاداتك وماضيك وشخصيّتك وشخصيّاتك، كما محت الحرب مدناً بأكملها عن وجه أرض بلدك.

أنا لستُ جائعاً بشدّة، ولكن عليّ أن آكل شيئاً، بعد أن منعني الطبيب من أن أبدأ يومي بالتدخين إلا بعد أكل شيء ما. لا أعرف إن كان طعم الشاي هو نفس طعم شاينا الذي كان يشفي صداع رأسي. منذ الصغر اكتسبتُ هذه العادة السيّئة؛ وهي شرب الشاي الساخن في الصباح، ومن دونه سيمضي يومي تحت ثقل رأس مُصدّع.

كان والدي يقول لي: “من الجيد أن صداع رأسك يكون بسبب عدم شرب الشاي، ويُشفى بالشاي، وليس بسبب اللحم أو السمك أو الذهب. مع الشاي نستطيع تدبّر الأمر”.

كنّا فقراء. وكنا نفطر في الصباح الشاي مع الخبز أو مع الزيت والزعتر. كنتُ أكره فتات الخبز الذي كانت تقطّعه أمي وتضعه في شاينا كي نشبع. كانت تضع الخبز اليابس القديم أيضاً. لم نكن نرمي الخبز بعد يباسه، بل نجد طريقة ما لترطيبه وإعادة أكله من جديد؛ فنحن لم نكن نتخلّى عن أيّ شيء بسهولة.

***

أقف الآن في هذا الصف الطويل، بينما كنتُ أركضُ من المدرسة عائداً إلى بيتنا، الذي يبعد عنها كيلومتراً واحداً، إذا دقّ جرس الفرصة النحاسيّ. أركض بسرعة لكي آكل ما تبقى من الشاي المتكتّل بالخبز اللذيذ! وأعودَ قبل أن تبدأ الحصّة التي بعد الفرصة. في الكثير من المرّات كانت أمي تقطع نصف المسافة بيننا، مثل عدائيّ التتابع، وتسلّمني حصّتي من الشبع الوهميّ . وإذا حسبنا كم ركضنا أنا وأمي يوميّاً بسبب الجوع، قاطعين ذلك الكيلومتر بين بيتنا والمدرسة، لكنّا وصلنا إلى ألمانيا ووقفنا في صف اللاجئين الطويل هذا  قبل ثلاثين سنة.

جاء شاب أسمر من خلفي وطلب مني المرور بيده، فسمحتُ له بالمرور بشكل تلقائيّ، وتجاوزني وتجاوز آخرين كانوا يتذمّرون من تصرفه هذا. وعلى بعد خطوات سمعنا نقاشاً وأصواتاً تعلو. ثم جاء شخص يعمل في “الكونترول” وطلب من الشاب الأسمر العودة إلى آخر الصف. “يالها من بداية” قلتُ في نفسي وأنا أفكّر في الخروج من المطعم والتدخين قبل استلام حصّتي من الإفطار.

عاد الشاب الأسمر من المكان الذي وصل إليه، وعندما وصل إليّ، وقف فجأة قبالتي، وسألني:

– هل تتكلّم العربيّة؟

– نعم.

– لماذا تنظرُ إليّ بوقاحة؟ سألني بعدائيّة. وقبل أن أجيبه، أضاف “سأنتظركَ بعد الغذاء خارج المطعم وسترى”. وقبل أن يُكمل طريقه سحبته من يده إليّ وقلتُ له: “لماذا علينا الانتظار حتى وقت الغذاء؟ دعنا نخرج الآن”. الرجل الخمسيني الذي كان يقفُ خلفي انتزع ذراع الشاب من يدي وطلب منه المضيّ، وطلب مني أن أبقى ولا أخرج وراءه وأن أنسى الموضوع.

“يا لها من بداية” كنتُ أريدُ أن أقول للأربعمئة شخص في الصف الطويل.. الطويل في مطعم الجنّة البائس هذا.

كنتُ أشعر بأنّ الجميع ينظرون إليّ، من الذين أخذوا وجباتهم وجلسوا إلى الطاولات في الصالة، ومن الذين ما زالوا ينتظرون. أعين كثيرة انتبهتْ فجأة إلى الوافد الجديد والذي تلقى تهديداً علنيّاً من شخص يعرفونه جيداً، أو يعرفونه أكثر مني، بينما لا يعرفون الشخص الجديد الذي تلقى التهديد قبل الإفطار. ولولا هذا التهديد لما انتبهوا لوجودي أصلاً. وحتى عندما جاء دوري وأخذت حصتي، شعرتُ بالعيون تنظر إليّ، فحاولتُ ألاّ أقع على الأرض بسبب التعثّر بالعيون الكثيرة التي تراكمت حولي وبين قدميّ.

سألتُ المرأة الستينيّة، التي تُقدّم الوجبات مع أخريات، عن مكان وجود الشاي. أشارت إليّ إلى الزاوية اليسرى. سألتها إن كان ساخناً. ردت مع ابتسامة عريضة: “بالطبع. إنّه شاي أسود وساخن، ولكن لا يوجد في داخله سكر، عليكَ أن تضيف إليه السكر إذا أردتَ”. وشعرتُ بأنّ عينيها أيضاً انضمت لباقي العيون وأنا أذهب إلى زاوية وجود دوائي السحري.

في معسكرات التدريب الجامعي، والتي كانت في لهيب صيف منطقة “المسلميّة” التابعة لمحافظة حلب، كنا نستيقظ في الخامسة صباحاً، ونتدرّب عراة الصدور في تلك الصحراء الباردة جداً في الليل وقبل شروق الشمس، والحارقة في الظهيرة. وبعد التدريب بساعتين كان الإفطار. كنا نجد دائماً طبقة من الغبار تعلو “قصعات” الشاي والزيتون والمربّى أو الحلاوة. لم تكن هناك أباريق للشاي بل قصعات للشاي، وكأنّه وجبة تؤكل. وكان شاياً بارداً وتافهاً ومُطعّما بالغبار والرمل والكافور.

مرّة سألتُ الضابط عن سبب وضع أواني وجبات الإفطار على الأرض وقبل انتهاء تدريباتنا بوقت طويل؟ وتبقى تلك الوجبات في الخلاء تبرد وتبرد، وربما تموت، في انتظارنا. لماذ لا يأتوننا بها عند انتهائنا من التدريب ويكون بذلك طازجاً وساخناً؟ نظر إليّ الضابط باستهزاء. ثم طلب مني أن أجثو على ركبتي. وبعد أن جثوت قال لي:

– أنت أتيتَ إلى هنا لتأكل وتشرب، وليس من أجل التدريب والدفاع عن الوطن. أكيد لا طعام عندكم في البيت فأتيت إلى هنا لتأكل وتشبع. (ثم بدأ يصرخ بشكل تمثيليّ) أنتَ هنا من أجل أن تكون مستعدّاً للدفاع عن الوطن يا كلب! نستطيع أن ندافع عن الوطن من دون طعام لسنوات وسنوات (وهو يُحرّك يديه وكرشه بارز بشكل يدلّ على حروبه السابقة وانتصاراته). التدريب أهم من الطعام يا حيوان. التدريب هو الذي يحمي الوطن من أعدائه وليس كرشك أو “خراؤك”.

– ولكننا لسنا في حرب ولسنا جنوداً في الجيش. نحن في تدريب جامعي.

– اخرس يا حيوان. أعرفُ أنّ أمثالك سينضمون للأعداء من أجل الطعام. تبيع وطنكَ من أجل الطعام يا خائن؟

شعرتُ بأنّه وصل إلى النقطة التي سينتزعُ فيها مسدسه من جانب بنطاله ويُطلقُ النار على رأسي وأنا على ركبتيّ أمامه. لذلك سكتُّ ولم أتابع النقاش، رغم أنني كنت أريد أن أقول له على الأقل.

– ولكن كيف سأدافع عن وطني من دون شاي ساخن؟

وجه مشوّه

بعد الإفطار ذهبنا أنا وزميلي في الغرفة إلى مبنى “السوسيال” لنستلم مفاتيح الغرفة وبعض أغراض النوم والاستحمام وبقيّة التعليمات المهمة، حول موعد تسجيلنا كلاجئين ومقابلاتنا.. وقد كانت الموظفة الأربعينيّة لطيفة جداً وهي تُعطينا الكثير من المعلومات والنصائح بوجود مترجم فلسطينيّ.

عدنا إلى الغرفة مع أغراضنا. ثم ذهبنا إلى المطعم من أجل وجبة الغداء. كان صف المنتظرين أطول من صف الصباح. أخذتُ وجبتي وذهبتُ إلى الطاولة البعيدة حيث لا يجلس إليها أحد. جاء زميلي في الغرفة ومعه شابان من عمره. “مرحبا يا خال” قالوا لي وجلسوا. رديت عليهم السلام وتابعتُ طعامي وأنا أنظر من النافذة المُطلّة على الباحة الخلفيّة.

– قال لنا “ر” بأنّكَ جديد. إنك البارحة وصلت. حبينا نسلم عليك يا خال. قال الشاب الأول.

– على راسي. شكراً. هذا يعني أن “ر” جاء إلى هنا قبلي بفترة طويلة؟

– لا لا . نعرف أنه جاء معك. ولكننا نعرفه عندما كنا معاً في تركيا. وكذلك عندما كنا في اليونان. ولكنّه خاف من السفر معنا في الشاحنة المغلقة. كان جباناً ولم يقبل الركوب معنا، لذلك وصلنا قبله إلى ألمانيا.

–  وسيبقى جباناً. قال الثاني وهو ينظر إليّ مبتسماً، وتلمع على خدّه ضربة سكين واضحة.

ضحك “ر” وكذلك الأول والثاني. بينما أكملتُ طعامي. شعرتُ بأنني ثقيل الدم. فسألتُ الثاني وأنا أنظر إلى خدّه الأيمن إذا كان يحمل ضربة سكين مماثلة:

– وهل كانت الرحلة سهلة في الشاحنة المغلقة؟ سألته.

وقبل أن يجيب أحدهما سمعنا صراخاً يأتي من خارج المبنى. كان الصراخ يعلو من النساء. ثم سمعنا أصوات سيارات الشرطة والإسعاف، فتركنا وجباتنا ولحقنا بالناس الذين خرجوا مسرعين خلف تلك الأصوات.

كان أحدهم ملقى على وجهه والمسعفون يقلبونه لكي يضعوه على النقالة. كان وجهه مشوّهاً بعد تكسّر الأنف والفك. رجال الشرطة كانوا يأخذون ثلاثة شبّان، بلطف شديد، إلى السيارة. كان من بينهم ذلك الشاب الأسمر. التقت عيوننا فجأة فرفع إصبعه الوسطى المتورّمة في وجهي، وغمز لي.

كان الشاب المضروب هو الذي أوقف الشاب الأسمر صباحاً لكي لا يتخطّى دوره ودور الآخرين في صف انتظار الطعام.

الناس عاد بعضهم إلى المطعم لإكمال تناول الطعام، وبعضهم أكمل طريقه إلى الغرف وأماكن أخرى. جلستُ على حافة نافورة الماء أمام مدخل المطعم، وأشعلت سيجارة. الأطفال يركضون في كل مكان، وحتى داخل مياه النافورة نفسها. لم أكن أراقب الأطفال ولم أتذكر طفليّ. لا أبداً. بل كنت أنظر إلى الإسفلت والبلاطات مقابل مدخل المطعم. كنتُ أبحث عن بقع الدم التي لا بدّ أنّها في مكان ما. عن بقايا سنّ مكسور أو خصلات شعر أو أنفاس اختنقَتْ.  فكرتُ للحظة فيما لو أنّني كنتُ بين أيدي وضربات أولئك الثلاثة، خاصة أن الشاب الأسمر كان قد وعدني أن ينتظرني بعد الغذاء ليُريني شيئاً.

لا أفكر بمنظري المشوّه، بقدر ما كنتُ سأفكر بعائلتي التي لن تستطيع إنقاذي من الكسور والرضوض، وقبلها برعبهم من المستقبل الذي ينتظرهم وقد ضُرب، مَن يشعرون بالأمان إلى جانبه، وتشوّهَ وجههُ.

نظرتُ حولي من جديد، وانتبهتُ للصخب والألوان المختلفة لثياب الناس، والشمس التي جعلت رقبتي حارة. شعرتُ بالنعاس، وكنتُ أريد أن أنام في مكاني على حافة النافورة. غرفتي تبعد ما يُقارب الكيلومترين من هنا. اخترتُ أن أمشي الطريق الأطول لكي أستكشف المكان.

***

رافي ساركي
رافي ساركي

خلف الغرف مسبقة الصنع كان هناك حلاق يحلق شعر شاب جالس على كرسي في العراء. وكان هناك العديد من الشبان الذين ينتظرون دورهم، أو شعروا بالنعاس فجأة مثلي ففقدوا القدرة على مغادرة المكان.

كان الحلاق يتحدّث مع الزبون بالكرديّة، وبين لحظة وأخرى ينظر في الحائط المقابل للزبون حيث لا توجد أيّ مرآة.

نظر إليّ الحلاق عندما انتبه لوجودي، وقال لي بالكرديّة:

– تعال اجلس. لقد انتهيت من حلاقة شعر هذا الشاب. أنا أحلق الرأس مقابل 5 يورو والذقن مقابل 3 يورو. أتعرف كم يُكلف ذلك خارج صالوني؟

ضحك الحلاق وضحك بعض الشبّان بسبب أننا واقفون على العشب في العراء وليس في صالون حلاقة. نفض الشعر العالق عن وجه الشاب وثيابه وقبض منه النقود، ثمّ نظف الكرسي بالمنشفة التي كانت على كتفه وطلب مني الجلوس وجلستُ. لا أعرف لماذا كنتُ منقاداً هكذا ببساطة، مع أنني مررت بالمكان مروراً وليس من أجل حلاقة شعري أو ذقني. وهكذا جلستُ ونظرتُ في المرآة الوهميّة على الحائط.

رجع الشاب وقال للحلاق:

– يقول أصدقائي بأنّ الشعر على الجانب الأيمن من رأسي أطول من الجانب الأيسر.

– السبب بسيط، قال الحلاق، رأسُكَ فيه مشكلة. عيب خلقي ربما. حادث سير. أو ربما لأنّه فارغ فيتبدّل حجمه بسبب الحرارة! فيبدو أطول على الجانب الآخر من الرأس، ولكن بعد قليل قد يتبدّل الحال؛ فيبدو الجانب الآخر هو الطويل!

غادر الشاب بعد أن شتم أمّ الحلاق. قال لي الحلاق:

– أنا في يدي مقصّ. حتى لو قالوا لك إن هناك زلزالاً أو سيارة قادمة لدهسنا، لا تلتفت أو تحرّك رأسكَ دون أن أقولَ لك.

هل سيُعاني رأسي من عيب خُلقي بعد قليل؟ قلتُ له وأنا أنظر في الحائط مبتسماً.

– سنعرف ماضيك كلّه بعد قليل. لا تقلق.

وضحك ضحكة عالية.

– انتبه. في يدك مقص. لا تضحك هكذا مثل زلزال. أنا أحتاج لكلّ شيء في رأسي ما عدا شعري.

ثم مدّ رأسه فجأة إلى القرب من أذني وهمس لي:

– ابتعد عن الأفغاني الذي هدّدكَ في الصباح. أنتَ جديد ولا تعرف هذه الغابة التي نحن فيها منذ ما يُقارب العام.

_ هل الإجراءات بطيئة هنا لهذه الدرجة؟ لماذا يقولون عنها بأنّها الجنة إذا؟

– ربما كانت جنّة قبل أن نأتي إليها نحن الذين تسكن في دواخلنا شياطين وحيوانات بريّة وكلاب مسعورة. أنت لا تعرف ما فعله خالد هنا؟.

وعندما لم أجب على سؤاله، نقر رقبتي برأس المقص.

– هل نمت؟

– نعم. (وأكملتُ متثائباً) شعرتُ بالنعاس تحت الشمس. عادة أشعر بالنعاس على كرسي الحلاقة، ولكنّني أقاوم النوم طوال الوقت. عندي إحساس بأنّ حلاقاً ما سيذبحني وهو يحلق لي شعري أو ذقني، وأنا لا أريد أن أفوّت على نفسي فرصة رؤية هذا المشهد، لذلك أقاوم الوقوع في بحيرة النوم بشدة.

بدأ الزلزال من جديد خلفي. ثم اعتذر لأنّه ضحك من دون أن يُخبرني قبلها. وقال لي بأنه ينعس وهو يحلق للزبائن، وحتى عندما يثرثر طويلاً؛ فإنه ينعس بسبب الثرثرة. ثم ضحك من جديد بعد أن أخبرني أنه سيضحك. ثم عاد للموضوع الأساسي من جديد:

– خالد هذا شرس جداً. ربّما يتعاطى المخدرات. وقد تسبب بحريق قبل أسابيع كاد أن يقتل ساكني هذا الكمب. والألمان يُعالجونه من أمراض وصدمات نفسيّة.

لا أعرف لماذا يُحاول هذا الحلاق إخافتي، خاصة أنني حصلتُ على حصّة جيدة من الخوف بعد رؤيتي لبقايا العراك الذي قام به الشاب الأسمر، ورأيتُ خيال ذلك الشاب وهو ينزف تحته، ويرفس بقدميه لكي لا يموت اختناقاً بعد تحطيم فمه وأنفه، لذلك كنتُ أغيّر الموضوع كلّما عاد الحلاق إليه. فسألته:

– عدم وجود مرآة مقابل الزبون يجعل الأمور أكثر إثارة؛ فالزبون لا يعرف حجم الشبه مع نفسه قبل الحلاقة وما بعدها. هل أنت من أكراد سوريا؟

نعم أنا من أكراد سوريا. فكرت أن أضع مرآة على الحائط، ولكن من أجل ذلك يلزمني مثقب ومرآة كبيرة وسيّار كهربائي… وفوق ذلك موافقة من المسؤولين هنا.

– وأين كان صالونك في سوريا؟

أنزل الحلاق رأسه وهمس في أذني:

– أنا تعلّمت الحلاقة هنا. أنا لستُ حلاقاً. صحيح أنني عملت في جز صوف الغنم، ولكن حلاقة البشر متعبة أكثر؛ خاصّة أنّك لا تستطيع ضرب أحدهم على إليته أو رقبته كما كنا نفعل في القرى مع الغنم.

كنتُ أنظر في الحائط وهو يبوح لي بسرّه الغريب هذا، وأتخيّلُ العيب الخلقي الذي سأدفع ثمنه 5 يوروهات فقط، وسأمشي به بعد قليل.

تشوّه خُلقي

تمضي الأيام هنا بأسرع ما يُمكن. وبسبب حظّنا الغريب، فإنّها تمضي من دون ذكريات أيضاً. لا شيء. لا شيء سوى الأكل والنوم والثرثرة ومباريات كأس العالم والانتظار.

تمّ تسجيلي كلاجئ ينتظر موعد المقابلة لكي تأتي عائلتي، وقمت بالتحاليل الطبيّة واستلمتُ ورقة إقامة خضراء لثلاثة أشهر، واستلمتُ 140 يورو كراتب شهري، وعثرت على إنترنت مجاني لدى منظمة من المتطوعين الشبان. يقوم المتطوعون، وهم من الخريجين الحديثين من الجامعات الألمانية بتعليم اللاجئين بعض الجمل الأساسيّة وكذلك بعض القوانين والعادات من أجل تسهيل اندماجهم في المجتمع الألماني.

الخريجون فرحون بالمهمة التي صارت تُثقل كاهلهم يوماً بعد آخر؛ فكل لاجئ، أو هارب من بلده، لديه قصص كثيرة ومنهم مَن يقوم بتمثيل شخصيّات أخرى لكي تُسهّل عمليّة حصوله على الإقامة، وهناك عدد كبير ممّن يأتون إلى مركز المنظمة يأتون من أجل الحصول على الإنترنت المجانيّ للحديث مع الأهل أو الحبيبات، أو لتحميل ومشاهدة الأفلام أو الأغاني، مع شرب الكثير من الشاي والقهوة وأكل بعض الكيك، بينما الاندماج وتعلّم الألمانيّة كان يهتم بهما نسبة قليلة جداً من اللاجئين.

ربيكا ويوهانسن كانا يصرّان على تعلّم العربيّة منّي، رغم وجود صديقتهم “زهرة” المولودة في ألمانيا من أبوين إيرانييّن، وتعرف العربيّة الفصحى بطلاقة. كانا يريدان تعلّم العربيّة العامية وليس الفصحى. العربيّة التي نعثر عليها في كلّ مكان فيما عدا الكتب التي حرّموا تواجدها هناك، بداعي عدم تخريب اللغة العربيّة الفصحى، أي العربيّة التي نعثر عليها كعشب أخضر وليس كفطر سام.

عندما قالت لي، في أول يوم من تعارفنا، بأنّ اسمها”ربيكا” ابتسمتُ في وجهها، وكأنني عثرتُ عليها أخيراً. لم تكن تعرف بأنّ اسمها محبوب ومعروف من قبلي.

ربيكا لم تكن تعرفُ بأنّها كانت تأكل التراب والكلس عن جدران قرية متهالكة وممحيّة في كولومبيا. ورغم أنّها تخرّجت من الجامعة منذ عامين إلا أنّها لم تكن قد سمعت بجنرال مشهور في كتيبة الروائيين الفرسان اسمه “غابرييل غارسيا ماركيز”.

– “معقول”؟. سألتها.

قالت لي “نعم”، وهي ما زالت خائفة من تلك الـ”ربيكا” التي كانت تترك سريرها في الليل وتذهب لتتحسّس الرطوبة أسفل الجدران، وتُنصت للحركات القليلة والخاطئة للديدان داخل وجبتها المفضّلة.

أتصوّر بأنّها تحمّلتني كثيراً وأنا أسرد لها بتلذّذ حكايات وتفاصيل عن تلك التي تحملُ اسمها في رواية كولومبية. أتصوّر أيضاً كم تحمّلت في شدّ عضلات بطنها ورقبتها لكي لا تستفرغ وجبتها الصباحيّة في وجهي.

المتخرّجون الخمسة لم يكونوا قد قرأوا، أو سمعوا حتى، بوليم فوكنر أو ساراماغو أو كوبو آبي أو صموئيل بيكيت أو آن سكستون أو غونتر غراس أو سلفيا بلاث… ولكنّهم اعتبروا أنّ “ج. ك. رولينغ” أكثر الكتاب إبداعاً مع كتابة السلسلة الشهيرة “هاري بوتر”!. ربّما اللؤم هو ما جعلني لا أسألهم عن صاحب “شيفرة دافنشي” و”ملائكة وشياطين”؛ فبالتأكيد يعرفونه.

من بين الخمسة تألّمتُ من أجل ربيكا التي لم تعرف ولم تقرأ المئة عام من العزلة؛ لأنّني كنتُ أظن أنّ لكل شخص نصيباً من اسمه، ولا بدّ أنّ ذلك النصيب سيخرج من الكتب يوماً ما ويُلاحق أصحابه. هل كنتُ أنا مَن سخّرته ربيكا الكولومبيّة تلك لكي أنوبَ عنها في ملاحقة ربيكا الصغيرة هذه؟ ورغم أنّني سعدتُ بنجاتها من مصيرها الآخر الرطب في الرواية، إلا أنّني حزنت على وحدة قرينتها التي لم تذق تراب ألمانيا طوال الأعوام العشرين الماضية.

زهرة أخذت نصيبها من تكشيرة ملامحي، ملامحي التي تكون مخيفة وأنا سعيد فما بالكم مع تكشيرتي كلاجئ؟ عندما قالت بأنّها لم تسمع بأحمد شاملو أو فروخ فرخزاد. ولكنّنا شعرنا بالفرح عندما تحدثت لنا عن الأسماء العظيمة في السينما الإيرانيّة. وصارت تتحدّث عن مسقط رأس أبيها الذي هو نفسه مسقط رأس “محسن مخملباف”. وفي نهاية هذه الجملة بالذات نظرت زهرة في عينيّ، وسمعتني معاتباً: ومع ذلك لا تعرفين فروخ فرخزاد؟ دون أن أقول لها ذلك. فانسحب دم الفرح من وجهها من جديد وبرّرت حزنها الخفيف بسبب الصوم في شهر رمضان.

أنا تفاجأت من فكرة أن خريجي جامعة لا يعرفون تلك الكتب العظيمة في الرواية أو الشعر أو المسرح. إذ كانت أيام الجامعة تعني لنا كذلك الغرق في تلك “البرك” التي تملؤها الروايات والشعر بماء الحب والحياة الجديدة التي كنّا نخوض فيها. نغرق ونطفو ثم نغرق إلى الأبد.

وتفاجأت من فكرة أن خريجي جامعة قد يعرفون كاتباً ما من خلال مسلسل تلفزيونيّ أو فيلم سينمائيّ فحسب؛ كما كان يحدث عندنا؛ من خلال معرفة نجيب محفوظ من المسلسلات التلفزيونيّة، وإحسان عبدالقدوس من الأفلام..، ولكن ليس من خريجي الجامعات على أيّ حال.

في البنسيون، الذي سأنتقل إليه بعد شهر ونصف شهر من الآن، وهو مخصّص للاجئين أيضاً، ستوجد فيه مكتبة كبيرة، سأبقى أنقل غبارها الكثيف من الكتب إلى عينيّ وأنا أحاول معرفة عناوينها وأسماء كتّابها. و، يا للهول، ستكون كلها لا علاقة لها بالأدب! ستكون عن الأماكن والبلدان والتاريخ والأدوية والمنظمات التي تعمل في الإغاثة وحقوق الإنسان وأطالس البلدان والعالم وكيفيّة تعلّم الرسم واللغة الألمانيّة ومجلّدات ضخمة عن الطبخ، مع بعض القصص الصغيرة المصوّرة للأطفال. سيبدو الأمر أنّ تلك الكتب كانت مدفونة في المكتبة؛ إذ لن ألمح أحداً يقترب منها ويختار كتاباً ليقرأه، لا من عائلة مونيكا، التي تسكن معنا، ولا من اللاجئين الذين يبحثون عن عمل “أسود” في أول استقرار لهم هناك. كما أن الشموع العديدة حول تلك المكتبة ستبدو كأنّها تسهر على راحة أرواح تلك الكتب الميّتة على الرفوف الخشبيّة.

كان زميلي في الغرفة يُرافقني بعد كل وجبة إفطار إلى هناك. وإذا استسلمتُ للنوم ولم أذهب إلى الإفطار، كنت ألبس ثيابي وأذهب إلى مقرّ المنظمة، لأجد زميلي في انتظاري. وبمجرّد أن يلمحني يذهب ليجلب لي كأساً كبيراً من الشاي مع قطعة من الكيك.

كان زميلي في الغرفة يخاف عليّ من ذلك الشاب الأسمر، لذلك كان لا يُفارقني في ذهابي حتى إلى الحمّام.

لم يُحدثني عن هذا السبب لكي يكون المرافق الأبديّ لي هنا، بل تحدّث عن أسباب أخرى أكثر عاطفيّة.

ومن خلال جولاتي خارج المركز والمشي على تلك الطرقات الزراعية المرتجلة بين حقول عباد الشمس والفاصولياء والتفاح اكتشفنا البحيرة المختبئة بين تجمّع كثيف لأشجار الكرز والكستناء. ثم اكتشفنا أننا آخر من اكتشف تلك البحيرة؛ فقد اكتشفنا هناك الكثير من نزلاء الكامب مختبئين خلف الأشجار، مثل صيّادي البط، أو جالسين يلعبون الورق أو يشربون الشاي، بينما النساء الألمانيات يتجردن من كل ملابسهن ويسبحن عاريات في تلك البحيرة.

عالم مختلف بكلّ المقاييس هو عالم أوروبا. وكلّما كنتُ أنتقل بين الأماكن كانت حياتي تضطرب أمام هذا الزخم من الاختلاف والبهاء الجماليّ الفوضويّ والمنظّم. وفي الوقت الذي كنتُ أرى الألمانيّات على أطراف البحيرات، وداخل الغابات، وقد تجرّدن من ثيابهنّ كاملة بمجرّد أن تسطع شمس أوروبا القليلة، كنتُ أرى ذلك الانهيار في دواخل المهاجرين عندما يصادف وجودهم في تلك الأماكن.

كنت أسمع قصص رفاقي اللاجئين بعد عودتهم من رؤية تلك الأجساد الجميلة في كلّ الأحوال. منتبهاً للزبد الذي يسيل على أطراف الأفواه وكأنّهم دُفنوا أحياء وهم ينظرون. وبما أنّ البحيرات، الكبيرة والصغيرة، والغابات والحدائق كثيرة هنا في ألمانيا، وفي أوروبا عموماً، فإنّ أماكن دفن المهاجرين أحياء كانت متوافرة أيضاً بتلك الكثرة.

هذا ما كان يحصل مع “الناس العادييّن” في بلدان تعتمد على الأقمار الصناعيّة في ترتيب الشكل الداخليّ لحياتها، بينما تركت الشكل الخارجيّ للطبيعة ودواخل النفس. فكيف إذاً بأولئك الشعراء والكتّاب الذين ترتجف “ركبهم” بسبب الحساسيّة التي حصّلوها لسوء الحظ.

الكثير من الحسابات، والتجهيز، من الممكن الأخذ بها عندما نذهب إلى مكان ما بمحض إرادتنا. وبعد تفكير ما مهما كان قصيراً. هذا التجهيز قد يجعل الحواس قادرة على التفريق بين الأماكن التي ذهبنا إليها، والأماكن التي ذهبنا منها، وتشغيل الرغبات التي اعتادت على جعل حياتنا راكدة. وبالتالي تجعلنا قادرين على إكمال الكتابة مثلاً.

أما الذهاب فجأة، في حالة النزوح أو الهجرة المفاجئة، فتجعلنا نقع تحت سطوة الجديد، والغريب، الذي لا نستطيع استيعابه بشكل تدريجيّ. وتبقى تلك الملعقة تحرّك حياتنا لكي لا تستقر كما يقولون، ولا تركد كما نقولُ نحن عنها.

هي محنة بالفعل أن يذهب أحد الشعراء فجأة من بلد مدمّر، سواء بسبب القصف أو بسبب الجهل والتخلّف والفساد، إلى بلد أوروبي يقصفه الجمال في كلّ لحظة. جمال التاريخ وجمال الحضارة وجمال الشعوب المتحضّرة.

إحدى الشاعرات التي أخذها النزوح إلى إسبانيا تقول بأنّها لا تعرف كيف تستعيد ذاتها! وهي تذهب كلّ يوم لتشاهد جداريّات سلفادور دالي وبيكاسو وقد غطّت الجدران والقطارات والأجساد. وهي تعثر بين تماثيل الخيول والفرسان، التي ما زالت تجري بصخب في ساحات مدريد، على قطعة حياة صغيرة وجديدة في زاوية ما.

لذلك أتصوّر بأنّ المقاعد الكثيرة، والكثيرة جداً، التي وضعها الأوروبيّون في كلّ مكان تقريباً في شوارعهم وساحاتهم وغاباتهم هو من أجل أن ننهار عليها، لا أن نرتاح.

في باريس دخلتُ إلى حيّ ما زال سكانه يتوارثون بيوتاً منذ مئات السنين. وعندما انفتح باب عمارة رأيتُ في داخلها عمارات تدور في تلك الفسحة السماويّة، وبراز الحمام قد غطى البلاطات الحجريّة الورديّة بسبع طبقات، كي تحافظ على استقرار الأبنية وعدم سقوطها.

عندما انفتح ذلك الباب هبّت أنفاس المقاتلين الجنوبيّين الذين ماتوا تحت عيون مقاتلي الشمال.

شعرتُ بذلك دون أقرأ عن ذلك. ولكن عندما تحدّثوا لي شعرت بأنّ الحياة المستمرّة هناك منذ مئات السنين هي شيء عاديّ. ولكن لا بدّ للمرء أن يشعر بانخفاض الضغط بسبب الجمال المفاجئ.

ليس التاريخ فحسب ما يودي بنا هنا بل كذلك الجمال الحضاريّ. في ألمانيا مثلاً كل شيء على الإنترنت وكاميرات المراقبة الظاهرة والمخفيّة. لا وجود لرجال الشرطة والمرور، ولكنّهم ينبعون في الوقت المناسب عندما تحصل مخالفة ما.

مواعيد القطارات والحافلات، مع خرائط الرحلات، كلها على الإنترنت. لا داعي للموظفين الكثيرين بوجود آلات قطع للتذاكر بسبع لغات. وإذا صدف وتأخرت رحلة ما ستجد السبب والموعد الجديد في برنامجها الخاص على الإنترنت، وكذلك في اللوحات الإلكترونيّة الكثيرة في المحطة. وليس من داعٍ هنا أن تستدلّ على بيت أحدهم من خلال قربه من مطعم أو مسجد أو نادٍ ليلي. بل تكتب العنوان في جهاز الجي بي إس ثم تقودك الملائكة الزرقاء بعناية فائقة.

هذا كلّه أصبح عادياً في كلّ أوروبا. ولكن أن يقول لي صديقي ونحن في محطة المترو في باريس بأنّه توجد تسعة أنفاق للمترو فوق بعضها البعض جعلني أصاب بما يشبه أعراض التوحّد طوال الرحلة.

صديق آخر يكتب على صفحته على فيسبوك “الجمال الهولنديّ. السعادة الهولنديّة. صباح هولنديّ…الخ”. ومَن لم يذهب إلى هناك لن يعرف كيف أنّ لهولندا خصوصيّتها في صنع ذلك الجمال وتلك السعادة والصباحات.

شريكي في غرفتنا المشتركة في مركز اللاجئين عاد لاهثاً من البحيرة التي ذهب إليها في نهار مشمس دون أن يسمع عن عمليّات القتل والتنكيل التي ترتكبها الألمانيّات هناك بتجرّدهنّ.

كان يمسح عرقاً وهميّاً عن وجهه وهو يتحدّث بشكل مرتبك: كنّ عاريات. عاريات من كلّ شيء. وكنّ قريبات جداً. وجميلات وبيضاوات بعيون ملوّنة يا الله. لم يكن فيلماً سينمائيّاً كنا نحضره كاملاً في القامشلي من أجل لحظات التعرّي تلك، اللحظات التي كنّا نستعيدها مراراً في لحظاتنا السرّية إلى حين حضور فيلم آخر.

– ولكن الشباب حدّثوكَ عن ذلك من قبل، فلماذا تفاجؤكَ هذا؟

– السمع غير الشوف يا خال.

قال لي ذلك وهو يُعاني من وعكة ما، وليس من السعادة. ثم أكمل:

– عندما اقتربت واحدة منهن من المكان الذي أصبت فيه بالشلل، سقط قلبي بين قدميّ يا خال. خلعتْ ثوبها البيتيّ الخفيف واستلقت أمامي عارية وجميلة جداً. بعد دقيقتين سجدتُ على ركبتيّ؛ لأنّني شعرتُ بأنّ “كليتيّ” قد توقفتا عن العمل.

– ماذا؟ أصبتَ بفشلٍ كلويّ؟

– نعم يا خال. وفوق ذلك شعرتُ، عندما سقط قلبي بين قدميّ على الأرض، بأنّ دجاجة حمراء أتت وصارت تنقر قلبي بمنقارها الحاد.

هذا التصوير البريء والقرويّ من زميلي في الغرفة جعل كلامه يبدو وكأنّه من الشعر الخام. أحببتُ كلامه، رغم أنه كان يُعاني من العذاب والألم في خاصرته وحول عموده الفقريّ. ولكنّه يعرف علاج ذلك بالتأكيد. سيذهب إلى الحمام ويُمارس العادة السريّة حتى تخرج تلك الصور والأحاسيس من العينين والخاصرة بشكل نهائيّ.

ولكن أعتقد أنّه يُفضّل مغادرتي الغرفة، إلى إحدى جولاتي التي تدوم لساعتين أو ثلاث، لكي يُغلق باب الغرفة على نفسه، ويستلقي على سريره، ثم يقوم بتحميض تلك الصور التي التقطها بكاميرا غدّته النخاميّة. أن يفعل ذلك على مهل وبتفاصيل أكثر، وحتى بتأليف تفاصيل جديدة.

ذلك التوتر والارتخاء على السرير أفضل مئات المرات من ذلك في الحمام. وبعدها سينام من شدّة الإثارة. وخلال نومه ستعود كليتاه للعمل شيئاً فشيئاً.

رافي ساركي
رافي ساركي

***

يوجد هنا شيء غريب؛ الصحّة والجمال في كلّ مكان. والقانون يجعل الحياة تجري مثل كلب نربّيه في البيت. لا شيء مفاجئا ومثيرا للدهشة بالنسبة إليهم سوى الأشياء العاديّة بالنسبة إلينا. كلّ شيء محسوب بالورقة والقلم. لقد انتهت الدهشة عند الأوروبيّين على ما أعتقد. وعلى ما أعتقد أظنّهم يأتون إلى بلداننا لكي يشعروا بدهشة كيف تجري الحياة عندنا منفلتة من كلّ قانون وحسابات.

حكى لي “مارون” مرة عن هذه الفكرة. واسترسل طويلاً. ومارون هو ابن مدينتي ولكنه هاجر إلى ألمانيا منذ أكثر من ثلاثين عاماً وحصل على جنسيّتها، وهو قس لدى الكنيسة الموجودة في الكامب.

قال لي مارون بأن أحدنا، خلال عيشه في ألمانيا يجد بأنّ كلّ المفاجآت تقريباً كأنّها قد انتهت. كلّ شيء في الطبيعة بات تحت السيطرة. صارت الناس تعرف كل شيء تقريباً عن الطبيعة التي حولها. ومن جهتها ألغت القوانين الصارمة في التربية، التي تؤدي إلى الوحدة والانفصال في كثير من الأحيان، إلى وضع الإنسان أيضاً تحت السيطرة. صارت الحياة الشخصيّة مبرمجة ضمن شبكة من العلاقات المادية الخالية من الروحانيّة والعاطفة وحتى من العلاقات الاجتماعية.

– تلك القوانين الصارمة حوّلت الحياة الشخصيّة إلى حياة “مُبرمجة”، وإلى حياة تحت السيطرة.

– تحت السيطرة من قبل مَن؟ سألتُ مارون.

– من قبل الشخص نفسه ومن قبل الدولة.

– أي أن الناس تحوّلت إلى آلات تعمل وتعمل لجلب المال لنفسها، وجلب المال لصاحب العمل.

– بالضبط.

– ولكن توجد هنا حريات يا مارون، فالشخص يستطيع أن يتراجع عن كونه آلة في الوقت الذي يُريد.

أنظر. أنت جديد هنا. ربما قرأت عن ألمانيا أكثر منّي، والحريات تختلف في درجاتها، كما تختلف في مردودها ونتائجها. فمثلاً الحريّة الجسديّة هنا ألغت متعة الحب، وكذلك الجنس، وآلامه وخوف الفقد والهجران، وهذا ما أطفأ الحواس رويداً رويداً؛ فبات العري شيئاً عادياً وغير مثير، وباتت القبلات في الشارع متاحة، وكذلك أماكن اللقاء الجنسيّ. لا شيء مُخيفا ومثيرا للهفة وللوعة، وانحسرت درجات الحبّ المتنوعة والكثيرة إلى درجتي الوصال أو الانفصال.

سأكتشف فيما بعد بأن هذه التربية وتلك القوانين الشخصية والمجتمعيّة، وكذلك القواعد المتعلّقة بالعمل، التي حدّثني عنها القس والعازف مارون، جعلت أكثر الألمان في الجزء الذي كان يُسمّى ألمانيا الغربيّة “ممثلين” في علاقاتهم وحياتهم. التمثيل الذي يؤدّي إلى المجاملات الواضحة والمصطنعة، والمغلفة بالبرودة التي باتت تشكّل غلافاً جويّاً في هذا البلد، وربما هذا الغلاف يمتدّ لبلدان أخرى..

انتهت المفاجآت في البلاد المتقدّمة علميّاً؛ لدرجة أنّه صار بإمكان مراكز البحث فيها رفع متوسط الأعمار! وفي الطريق إلى الاحتفال بالمدينة الإلكترونية، والدولة الإلكترونيّة في الظاهر، سيتم الاحتفال بالحياة الإلكترونية في الباطن.

في إحدى المرات عرفنا أن عائلة سوريّة مسلمة من دمشق ذهبت إلى الكنيسة وطلبت من مارون ورفاقه تعميدهم كمسيحيين.

كان الأب معلماً، والأم مربية أطفال، ولديهما طفلان. قال الأب بأنه ولد مسلماً، وكان مُرغماً على ذلك بحكم الولادة لوالدين مسلمين. وقال بأنه كان يجد دائماً بأن المسيحيّة السمحة هي الدين الذي يريد اعتناقه بإرادته الكاملة. ولكنه كان يخاف أن يجهر بذلك في بلده؛ خوف أن يعتبروه مرتداً ويقتلوه.

الأم المحجبة قالت نفس الكلام، وطلبت أن يتم تعميدها مع أولادها كمسيحيين!

في مساء ذلك اليوم التقيتُ بمارون وأنا عائد من إحدى جولاتي. بادرته مازحاً:

– مبروك. لقد ازداد المسيحيون أربعة، ونقص المسلمون بذات المقدار.

ابتسم القس الجميل ذي العينين الخضراوين، وقال بأن الدولة والكنيسة عادة ما تضع هكذا أشخاص تحت المراقبة. منهم من يفعل ذلك كسباً للوقت لكي يحصل على إقامة جيدة وسريعة، من دون تعقيد كبير في الإجراءات وروتينها. ومنهم من تكون لديه مشاكل في البصمة لدى الدول التي مرّ بها باتجاه ألمانيا. ومنهم من هم صادقون حقاً ويريدون أن يصبحوا مسيحيين بصدق. ثم اكتست سحنته لبوس الكهنة وقال لي:

– ولكن هناك قاعدة لا بدّ من عدم نسيانها.

– ما هي؟

– مَن ليس فيه خير لدينه، لن يكون فيه خير لدين آخر.

– أنت تشك في الجميع إذاً.

– لا. القاعدة هذه تجعل الجميع تحت نظرات الشك والمراقبة. ثم سألني عن رأيي في طلب التعميد هذا من قبل تلك العائلة. فقلت له وكأنني ألبس لبوس الفلاسفة.

– طوال عقود كنا نظنّ أنّ إطلاق تسمية “العالم الثالث” على بلداننا فيها شبهة كبيرة من العنصريّة والتعالي من قبل الدول التي استعمرتها، وما زالت تنهبها وتتعالى عليها رغم الاستقلالات. ثمّ اكتشفنا أن تلك التسمية ظالمة بالفعل؛ وكان من الأفضل لو أنّهم أطلقوا على بلداننا تلك تسمية “العالم الآخر” وليس العالم الثالث!

***********************

* من نص طويل ليوميات غير منشورة تحمل عنوان “حديقة التأوهات”.

** عارف حمزة شاعر وكاتب سوري مقيم في ألمانيا، صدرت له 9 مجموعات شعرية، إحداها باللغة الألمانية في طبعتين، ترجمت نصوص له للغات عديدة.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.