لماذا‭ ‬الإصرار‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لدينا‭ ‬مسرح

الأربعاء 2016/06/01
لوحة: عامر الوهيبي

ما أن تدخل إلى قاعة المسرح في عاصمة عربية حتى يستقبلك الصفير. الصفير الذي يطلقه المتفرجون صار أشبه بالموسيقى التصويرية للمسرح العربي. عادة سيئة حقا وليست جديدة. كل المسرحيات التي سجلها التلفزيون من الستينات في القرن الماضي وإلى الآن تعجّ بالصفير. الجمهور يتعامل مع المسرح بقلّة احترام ملموسة لعلها تلخّص بعضا من مشاكل المسرح المزمنة في العالم العربي.

المسرح فكرة مستوردة لعالمنا العربي. المسرح يحتاج إلى جمعين: جمع يصنع المسرحية وجمع يتفرج عليها. هذان الجمعان يبذلان جهدا صعبا ليتشكلا، خصوصا في الإطار التاريخي. صناعة المسرح تحتاج إلى جهد جماعي لا حاجة لتفصيله ولكنه بالتأكيد ليس جهدا فرديا. والجمهور عدد ضروري يجلس بهدوء لساعات لمشاهدة العمل المسرحي. في عالمنا، إذا توفر الأول قد ينعدم الثاني، أو العكس. لعل هذا ما صعّب مهمة تأسيس مسرح عربيا، ولهذا فإن المدرّجات المسرحية التاريخية في العالم العربي هي مدرّجات رومانية تحولت إلى أطلال ما أن غاب أصحابها الأصليون.

عاد المسرح مع عودة التنويريين من الغرب بعد عصر النهضة. جاؤوا معهم بالفكرة الحديثة للمسرح. حاولوا كثيرا أن يقدموا مسرحا عربيا أصيلا حتى وإن كان مقتبسا من أعمال مسرحية عالمية. انتهى الأمر بالطبع إلى أنهم اضاعوا المشيتين. وبدلا من حركة مسرحية، وفق المعايير الكلاسيكية أو المعاصرة من تراجيديا أو كوميديا أو مسرح غنائي، صار مسرحنا تهريجا في تهريج. نجم يقدم مسرحية وحوله حاشية يضربهم ويسخر منهم ويهينهم والناس تضحك. نجم آخر يتدلى من حبل يتأرجح كأنه في سيرك وآخر يتحرك بتشنج ساذج. فرقة تمرّ وهي تعزف وراقصات يتمايلن وفوضى وهرج وتصفيق هستيري لجمهور جاء للفرجة كمن يذهب إلى ملهى ليلي.

الصفير هنا شيء طبيعي جدا ومرافق مناسب لمثل هذه الأعمال “الفنية”.

هل هذا هو المقصود من المسرح كتأسيس لركن ثقافي مهمّ في المجتمع؟ من الصعب القبول بهذا بالطبع. ولا مقبول أن يقدم فنانونا نسخا مكرورة من الأدب العالمي تعرض ليوم أو يومين وينتظرون أن يأتيهم كثير من الجمهور. هاملت ابن بيئته. ما لنا وحيرته؟

سيكون من التجنّي بحال أن نقول إن المسرح كصناعة ثقافية لم يولد بعد في عالمنا العربي. ربما الأفضل القول إن المسرح لا يزال في طور التجريب وقد يبقى فيه لمدى طويل. ربما لن يصل أبدا إلى ما وصل إليه المسرح في أوروبا أو الولايات المتحدة. هناك دول تعيش من دون مسرح ولا تحسّ بالنقص. لماذا الإصرار على أن يكون لدينا مسرح؟

هذا يصعّب من مهمة الكتابة المسرحية. المسرحيات غير الهزلية التي نشاهدها على مسارحنا تبدو عملا تجريديا محصورا في كادر بصري بسيط. الديكور غير موجود تقريبا وثمة سباق على من يضع ممثلين أقل على خشبة المسرح. مسرحيات المونودراما التي يقدمها ممثل واحد صارت هي القاعدة.

المسرحيات المقتبسة من أعمال روائية عربية عادة ما تفتقد الحس المسرحي وتتحول إلى ما يشبه الفيلم ذا الميزانية المحدودة. عليك أن تحشر الرواية على خشبة المسرح. المسألة معكوسة مثلا في المسرح الغربي. الأفلام التي قدمت عن أعمال المسرحي الأميركي تينيسي وليامز كانت أشبه بمسرحيات مصورة في غرفة أو غرفتين. أعمال ويليامز مكتوبة للمسرح بطريقة محكمة تعثرت معها محاولات تمديدها سينمائيا لأبعد من ذلك.

الغرب انطلق بالأوبرا كمسرح غنائي. لا يزال يحبها، لكنه أدرك أن الأجيال الحديثة تحتاج إلى نمط مسرحي أبسط. المسرحيات الغنائية في لندن ونيويورك تستقطب طوابير من المشاهدين. مسرحية “شبح الأوبرا” شاهدها 130 مليونا وحققت ما يقارب 6 مليارات دولار دخلا على مدى 30 عاما من العرض المستمر. المسرح الغنائي قوة ثقافية كبيرة تحرك أجيالا من المهتمين ممّن يسعون إلى الوصول إلى الشهرة وتحقيق الذات. مجرد التفكير بإجراء مقارنات مع المسرح الغنائي العربي سيقود إلى الإحباط، فنا قبل أن يكون دخلا أو شعبية.

المسرح العربي المهاجر ليس أقلّ أزمات. المسرحية العربية التي تعرض في الغرب تكون ناجحة بكل المعايير إذا استطاعت تقديم عروض لثلاثة أيام بمجموع للجمهور لا يتعدى الألف مشاهد. لولا المساعدات الخيرية أو منح البلديات لما سمعنا عن مسرح عربي مهاجر.

كل ما ذكر أعلاه هو في صنعة المسرح وتعثرها. ماذا عن قضايا المسرح العربي؟ كل ما يعلق في الذاكرة من أعمال مسرحية كانت حصرا للقضايا الاجتماعية وهموم الفرد. هناك بيت القصيد الذي قد يحمل الأمل في التأسيس لمسرح عربي من جديد. أما التهريج والاستعراض والخطابة المفتعلة في المسرحيات “الوطنية”، فكالزبد تذهب جفاء.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.