الفوضى نظام موارب

السبت 2022/10/01

تغيير العالم يبدأ بتغيير فكرة اللاهوت، والناس من بعده، عن إشكالية وفعل الموت. وهذا يعني أو يتضمن رفض بعض القيم التي اكتسبت مشروعيتها من التقادم، وليس من عملية قبول تقوم على الاقتناع المعمق. وهذا يعني أيضاً، أن نكف كأشخاص عن أن نكون كينونات منفعلة/انفعالية، لا يقع عليها سوى أداء ردود أفعال الاستجابة لما يسمى قدر الموت، أي أن نكف عن أن نكون سلبيين وأن نكون أكثر من مجرد كائنات لسد الفراغ، أي أن نكون كينونات لصنع الفعل الإرادي وصنع أقدارها.

الموت يأتي كحصيلة نهائية لفعل الحياة الخائب وغير المنتج، أي هو فعل هزيمة لفعل حياة فاشلة، استعصى عليها تحقيق فعل إرادة ثابتة، يقيني، تجاه فعل الموت التدميري.. فلماذا إذاً نفشل في صناعة فعل الحياة (الفوار) أو المستمر والذي لا يهزم؟

أظن أن هذا يحدث بسبب أننا نتعامل مع الحياة بشكل سلبي، أي بتعاملنا أو باستخدامنا لجزء صغير فقط من أدواتنا في التعامل مع الحياة، وفي أغلب الأحيان يتم هذا الاستخدام بشكل خاطئ ومتردّ؛ أي إن هذا الاستخدام ينكص ويتردى في منتصف الطريق ليكسل عن أداء دوره البناء أو ينحرف عنه ليتحول إلى مجموعة من ردود الأفعال التي تستجلب الأخطاء الفادحة، أو يتحول إلى مجموعة من الأفعال التدميرية المقصودة، كما في حالة استخدام التقدم العلمي ومنجزه التكنولوجي لصناعة الأسلحة الفتاكة لتدمير الحياة والإنسان معاً، على سبيل المثال لا الحصر.

وبالتقدم المادي والاقتصادي للحياة وما تبعه من تقاتل على مصادر الطاقة والثروات الطبيعية، المحركة لعجلة هذا التقدم وبقاء زهوه متأججاً كوسيلة خداع للذات (في أن يكون هو وسيلة الخلاص من الموت في النهاية)، تحول الأمر إلى شكل الصراع الأيديولوجي المبطن المبني على فلسفة القوة وفرض إرادتها، المدعومة بقوة الأسلحة الفتاكة المتطورة، وهي وسائل الموت الأسرع والأقل هدفية (باستثناء هدفيتها التصفوية السياسية والاقتصادية طبعاً) في جلب الموت بدل تحقيق إزاحته عن مفهوم قدريته المُعطلة لكينونة ووجود الكينونة الذاتية المستقلة والمعتزة بفرديتها ووجودها.

وطبعاً علينا أن نؤجل الإجابة على سؤال “ما الذي يجب علينا فعله الآن” حتى النهاية وفراغنا من عملية تقليب والنظر في موضوعة الصراع الأيديولوجي، التي أشرنا إليها، لأنها بالفعل، ولأسباب سياسية سلطوية صرف، قد حولت نفسها إلى فلسفة بديلة وعملية لجميع الرؤى والمذاهب الفلسفية، والتي تمكنت السلطات السياسية، وبحكم القوة، إلى حجزها – الفلسفات – في فصول وأروقة الجامعات، بل وفي كليات فلسفاتها بالذات، ودون السماح لها بمد رأسها حتى من شبابيك فصول تلك الكليات. والغريب أن الصراع الأيديولوجي هذا قد ظهر له مُنظروه ومريدوه من الفلاسفة المصرّين على تحويله إلى فلسفة تدرس في الجامعات وتفرض على الحياة كعقائد.

ويأتي جهد فلسفة الصراع الأيديولوجي، كأنه جهد تذويبي متعمد للجهد الفلسفي الخلاق، لأسباب وأزمات سياسية تهدف إلى صرف النظر عن الأخطاء والمصالح الفئوية والحزبية، وتحويلها إلى أزمات دولية، بعد صبغها بصبغة الأزمات الأيديو – فلسفية وتسويقها بثوب فلسفي سياسي قمعي متسلط.

لقد حولت أزمة الأيديولوجيات، التي تبعت انهيار جدار برلين وما تبعه من تطورات سياسية دولية، (حولت الولايات المتحدة إلى قطب قوة أوحد ومهيمن على مصير العالم ككل)، حولت الجهد الفلسفي والنظر فيه إلى نوع من الصراع البديل الذي عكف على دراسة مشاكل الوجود في جانبها التاريخي، بدل جانبها (الروحي، تجوزاً طبعاً)، من أجل حصول المؤسسات السياسية على جهد تنظيري يدعم تحركاتها ويسند تشوّفاتها وتطلعاتها وأطماعها الاستحواذية على مصادر الثروات وأسواق تصريف منتجاتها من الأسلحة والبضائع الاستهلاكية، من ذات العوائد الربحية العالية.

والغريب هو انطلاء هذه الخدعة على الفلاسفة المحدثين وانشغالهم في إيجاد الأطر التنظيرية والفلسفية لها، على حساب حيرة وضياع الإنسان وغرقه في أصناف وأشكال جديدة من الضياعات الروحية والمشاكل والأمراض النفسية الجديدة والمتولدة عنها، وبالتالي أصبح الجهد الفلسفي الحديث ليس أكثر من تقارير مفلسفة (مكتوبة بلغة فلسفية) عن المشاكل السيا – اجتماعية التي أفرزتها وعمقتها السياسات الدولية الحديثة لا أكثر، رغم أن هذه السياسات التسلطية والاستحواذية، وبما أنتجته من حروب دولية جديدة، قد أنتجت أصنافاً بغيضة من أشكال الموت الجماعي وتحطيم وتفتيت الدول الضعيفة، الخازنة للثروات الطبيعية.. وبالتالي فإن الدول المتقدمة قد تحولت للبحث عن حلول مشاكل الوجود في معاهد البحوث النفسية والاجتماعية، بدل الفلسفة، على اعتبار أن ما يعانيه الإنسان هو مجموعة من الأمراض النفسية العابرة، وليس أزمة ثقافية وفكرية أفرزها وضع ثقافي مفروض بقوة السلطة وأدواتها الجهنمية المتسلطة.

الحقيقة أن الوضع الثقافي الشاذ الذي ساد منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، كان سببه هو إعلان اللاهوت، بكافة مسميات تمظهر سلطاته الروحية، عن إفلاسه وعجزه عن إيجاد الإجابات الواضحة والعميقة عن أسئلة الإنسان الوجودية، وبالتأكيد فإن الصراعات الأيديولوجية وحصارات صراعاتها، لم تكن هي اللاهوت البديل أو الجديد الذي كان ينتظره الإنسان، لأن مشكلة الإنسان مع وجوده كانت في منطقة أخرى، غير التي يراها عالم الاجتماع والمحلل النفسي، أو التي تمسخها تنظيرات فلاسفة الصراعات الأيديولوجية وصراعات الحضارات، لأنها بالفعل كانت ما تزال في المكان الذي عبر عنه، جان بول سارتر، بمقولته المبسطة “لا معنى هناك لأن نعيش، وأيضا لا معنى لأن نموت”؛ هذا المكان الذي مازال يفح في وجوهنا بخواء ومحدودية ولا جدوى عملية ممارسة الحياة، وأيضاً قتامة واستهتار فعل الموت الإقصائي وغير الهادف، الذي لا يقدم غير صور إحالتنا إلى جثث عفنة منخورة تعاف منظرها حتى الحيوانات العجماء.

والسؤال الذي يشغلنا هو ليس لماذا نموت، إنما هو أما آن للطبيعة أن تغير مسار رؤيتها، بعد أن أثبتت تجربة الموت، لملايين السنين، أن ليست فكرة الموت هي الحل لمشكلة وجود الإنسان، في لا هدفيته، بل الحل يكمن، نظرياً، في منح المزيد من فرصة الحياة من أجل البحث عن حل.

يصور جميع رجال الأديان الحياة على أنها عملية انتظار للموت، وأن الموت، بصفته صلة الوصل بين الإنسان وحياة نعيم ما بعد الموت الأبدية، هو عامل الإنقاذ الوحيد من تفاهة الحياة الدنيوية الزائلة ولا هدفيتها، وهذا يمثل اعترافاً مبطناً بتفاهة الحياة التي بين أيدينا وفوضى قوانينها الكابحة، بل المحاربة لإرادة الإنسان في إيجاد حل إصلاح أمر الحياة وإخراجها من طور عبثيتها. والسؤال هو: هل كل ما بناه الإنسان في هذه الحياة، عبث وسيذهب هباء؟ فرغم كل صور احتجاجنا على الحياة والإنسان، إلا أنه بذل مجهوداً كبيراً ورائعاً في تحسين الحياة وتجميلها وجعلها أقل سوءاً، فكيف سيدمر كل منجزه هذا بهزة واحدة، من أجل تحقيق إرادة الموت والفناء؟ والإشكالية هنا، إذا ما أردنا أن نعرض جانباً منها، فهو مثير للدهشة والسخرية؛ فإذا ما حاججنا قساً بفرق حياته عن حياة أسلافه بأنه يركب الآن طائرة مريحة ومكيفة الهواء وتقطع مسافات مهولة بين الدول خلال سويعات، أو في زمن تناوله لغداء ساخن فقط، وإنه يتلقى علاجات أمينة وسريعة لأمراضه، فإنه سيرد علينا بأن مخترع الطائرة ومهندسو تطويرها وقائدها وكبار مخترعي الأدوية وأطباء إجراء العمليات الجراحية الكبرى، في أكبر مستشفيات العالم، يحضرون إلى كنيستي لحضور قداديس إنقاذ أرواحهم الضالة ولسماع مواعظي المكررة! وفعلاً هذا ما يحصل، والنفاق الاجتماعي، ربما، وربما أسباب أخرى أكثر سذاجة، تفرض علينا قبول ذلك الوضع من أولئك العلماء على أنه وضع طبيعي ومعقول وغير شاذ، في حين أن اكتشافاتهم واختراعاتهم العلمية، وفي كافة المجالات، تريهم يومياً تناقض وسذاجة أفكار وتصورات ذلك القس العتيقة وتناقضها مع قوانين العلم بشكل واضح وصريح تماماً. وكل هذا يحدث بسبب سطوة الموت ورهبته، رغم عبثيته الواضحة والناسفة لكل جهد الإنسان.

*******

فوضى

الفوضى في (نظام) الكون أصيلة لأنها من أصل الوجود أو أحد قوانين استمراره ربما، ووجود الإنسان داخل هذه الفوضى هو حافزه الأساسي على إعادة اكتشاف نفسه كذات، لا بصيغة صراع وإنما بصيغة الخروج من عملية الترويع التي تمارسها النظم والقوانين الاجتماعية التي تضعها التجمعات الاجتماعية للسيطرة على هذه الفوضى.

لعل أوضح مثال على ما أقصده بكلامي هذا هو عودة بعض دول أوروبا الأسكندنافية لإدخال، بعض أشكال رفاه الفوضى، إلى حياة مجتمعاتها، بعد بلوغها حداً كبيراً من التنظيم والرفاه الاقتصادي، كتذويب أنظمة التعليم الكلاسيكية، بتحويل أنظمة التعليم في مدارسها إلى نوع من النزهة الثقافية، وإباحة افتتاح مقاهي تناول المخدرات، على سبيل المثال؛ وأيضاً تقليل ساعات العمل اليومي إلى أقل ما يمكن، من أجل توفير، زمن الحرية والتحرر من الواجبات والأعباء، لممارسة حرية اللانظام (الفوضى) في حياتها اليومية، كشكل نهائي كبير لحياة الرفاه والسعادة.

واستناداً إلى هذه الرؤية، تكون الفوضى هي شكل الحرية المبتغاة، في أعلى مراحله، والتي هي كانت مفتتح نظام الحياة في فطرتها ومبتدئها، وهكذا تكون الحرية هي أساس الحياة، وتكون فوضى الحياة، كنقطة انطلاق للحياة على كوكب الأرض، هي شكل الحرية المطلقة التي نسعى للعودة إليها الآن بكل شوق ولهفة، ولا يمنعنا عنها غير أنظمة الاتفاق البورجوازي وسلطات بطشه السياسية والاقتصادية المتوحشة.

وبعيداً عن أسطورة الخلق المتداولة بيننا، قصة هبوط أو طرد آدم وحواء ونزولهما إلى الأرض، فإن شكل الحياة في مبتدئها لم تكن بهذه الكثافة السكانية التي هي عليها الآن، وأيضاً كانت شكلاً مشاعاً من الحياة، بلا أنظمة ولا قوانين، ويمارس الإنسان حياته فيها بمنتهى الحرية، أي بشكل فوضوي، وكما يعن له.. والسؤال الذي يهمنا من هذا هو: هل عاش الإنسان سعيداً في ظل تلك الفوضى أو حالة اللانظام واللاقوانين، والتي حولت حياتنا الحالية إلى عبء، لأنها تتدخل في حياة وخصوصيات الفرد وتحرمه من ممارسة حريته الأولى أو الفطرية؟ وعلى سبيل المثال لا الحصر، فنحن الآن لا نستطيع الزواج إلا بعد استحصال موافقات وإكمال أوراق وإحضار مستندات تثبت هويتنا وصلاحنا، وكل هذا تحت دعوى النظام والتنظيم. وعلى سبيل المثال، شكا لي أحد الأصدقاء قبل أيام، من أن السلطات الفرنسية تمنعه من الالتحاق بزوجته، وهي مواطنة فرنسية، لأنه، وبعد أن قدمت زوجته طلباً للسلطات من أجل لمّ شملهما، استدعي من قبل السفارة الفرنسية في إسطنبول، حيث يقيم الرجل، ليخبروه أن السلطات الفرنسية غير مقتنعة بزواجهما، وأن مقابلته التي هم بصددها من أجل منحهما الموافقة على زواجهما، قبل السماح له بدخول الأراضي الفرنسية، ولأن الموظفة التي قابلته لم تقتنع بأن لديهما ما يكفي من أدلة تثبت أن بينهما علاقة تؤهلهما للزواج، رفض طلب الزوجة بلمّ الشمل ورفض طلبه بمنحه فيزا دخول الأراضي الفرنسية… وكل هذا باسم القانون والنظام! لم يبق للسلطات سوى أن تتدخل في تحديد ألوان سراويلنا الداخلية التي نلبسها تحت بدلاتنا وفساتيننا إذاً!

هل هذه هي القوانين التي شغل العقل البشري نفسه بها، بدل إيجاد الأجوبة لأسئلته الوجودية؟ أليست هذه القوانين ضد حرية الإنسان الفطرية وضد فطرة الحياة؟ أليست هذه القوانين التي قسمت الأرض إلى مستعمرات تمتلكها الحكومات، باسم القوانين، عملية كبح لحرية الإنسان، وبالتالي عملية مصادرة لتفكيره؟ والأهم من كل هذا، ماذا قدمت حكومات الأرض وقوانينها كحل لمعضلة الموت التي تطارد مواطني مستعمراتها؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.