ثقافة المونولوج والتقوقع وثقافة السؤال والحوار

الثلاثاء 2022/03/01
لوحة: سعد يكن

استهل رئيس تحرير مجلة “الجديد” الشّاعر نوري الجراح، عدد (85) فبراير 2022، بمقالة احتفائية ورثائية في الوقت ذاته؛ احتفائية بدخول المجلة عامها الثامن بعد أن قطعت مسيرة طويلة اعتورتها صعوبات متعدِّدة، ومع هذا استطاعت المجلة – بفضل إدارتها ونخبة من كتابها – أن تتجاوزها، وتقف صلبة في مواجهة مثل هذه العقبات التي كانت هي الأخرى بمثابة تحدٍّ للاستمرار، والإصرار على الرسالة  التي تبنتها وجعلتها شعارًا لها منذ بيان التأسيس “بطرح الأسئلة الأصعب، وتحرير مساحات من الوعي العربي بالذات“. وهو ما وضع المجلة  – مع حداثتها – في مصاف المنابر التنويريّة الكبرى الجادّة بما تحمله من رؤى وأفكار وأسئلة مُتعلِّقة بواقع ثقافتنا ومستقبلها دون انفصال عن ماضيها الذي يعدُّ هو الركيزة الأساسيّة، والبوصلة التي توجه مسارنا إلى الغد، والأهم أنها استطاعت أن تستعيد الفكر التنويري والنهضوي الذي صاغته وبلورت أفكاره المنابر الثقافيّة التي كانت علامات في ثقافتنا مع مطلع القرن الماضي.

فهو فَرِحٌ بهذا الإنجاز الذي استمرّ على مدار أعوام سبعة ماضية، رقشت فيها “مجلة الجديد“ كل الأسئلة المحظورة والممنوعة والمخبوءة، آملة في إجابات تتسق مع رهان المجلة وطموحاتها التي انطلقت مع بيان التأسيس في فبراير من عام 2015. أحد أهداف المجلة  الطموحة التي سعت إليها هو تحرير الثقافي من هيمنة السياسيّ تارة والفكر الأبوي المتسلِّط على الثقافة تارة ثانية، من أجل “تقديم الأصوات والتجارب الأدبيّة والنقديّة الجديدة وتمكين أهل الفكر من تجديد أسئلة الثقافة“، هكذا كان الرّهان الذي عملت عليه المجلة  طوال السنوات السبع، وفي ظني حتى مع نبرة اليأس والحزن البادية على رئيس التحرير في مقاله الافتتاحي “هواء الكلمة الحرّة، ورئة الأدب”، فبصفتي قارئًا ومتابعًا للمجلة، وفي أحايين كثيرة مشاركًا بالكتابة في ملفاتها التي تطرحها في كل عدد، أو بمواد مستقلة، أقول إن العنوان الذي اختاره رئيس التحرير للافتتاحية، لهو التعبير الحقيقي لمسيرة المجلة وواقعها الفعلي طيلة السنوات السبع الماضية.

فاتسمت المجلة بديمقراطية نادرة المثيل في ظل ظرف نادر واستثنائي، وفي الوقت ذاته معيق ومُكبِّل إلى أبعد الحدود، فكانت المجلة هي المجال/الفضاء الحرّ للكلمة تَعْبره وتعبّر بها دون قيود وشروط أو خطوط حمراء ممنوع تجاوزها، أو حتى الالتفاف حولها، بل على العكس تمامًا، فتحت الأبواب على مصراعيها للكتابة وأحيت ما كان سمة للثقافة العربية في عصور نهضتها وريادتها، أقصد السّجال الثقافي، وراح رئيس التحرير يُحرِّض طورًا، ويدفع تارة ثانية للدخول في المعترك السجالي، إلا أن الأيدي ظلت مكتوفة، إلا فيما ندر، وهو السؤال المحيّر؟

وهنا تبزغ نبرة الحزن والرثاء وسط حالة الابتهاج والاحتفاء، فكل محاولات التحريض والحثّ إلى/على إثارة الفكر والوعي النقدي، والأهم إثارة ثقافة السؤال والاختلاف باءت – باستثناء القليل – بالفشل، على الرغم من أن الدعوة كانت مفتوحة منه لـ”كسر الحواجز بين الأجيال، وحضّ الكاتبات والكتاب على اختلاف مشاربهم ومرجعياتهم على مغادرة خنادق العزلة والتناكر بين الأجيال الأدبيّة المختلفة (وهو ما حكم العلاقات بين الكُتاب والمثقفين في ظل خلل اجتماعي وسياسي مزمن، وهيمنة للفكر الأبوي لم تتخلص من تبعاتها حتى التيارات التحديثية) واستبدال ذلك بخوض حوار تتشارك فيه أجيال الثقافة يقوم على احترام الاختلاف، والتفاعل بين عناصره، ولا ضير في أن يكون ذلك من خلال منظور نقدي. بل إن هذا المنظور هو أحد شروط اللقاء والحوار والتفاعل، كما أكدت التجربة“.

الثقافة الغائبة

◙ ما البديل لتحفيز العقل العربي، للدخول في معترك السجال، وتنشيط ثقافة السؤال وما يتبعها من مغايرة، واختلاف؟

يعترف الجرّاح – بحزن ممزوج بألم – أن دعوة حملة الأقلام العرب (من المفكرين والأدباء) إلى الحوار والسجال على صفحات المجلة، “لم تكن سهلة” بل – في تأكيد قاطع – “كانت وما تزال شاقة إلى أبعد الحدود“، هذا الاعتراف المصحوب بخيبة أمل واستنكار، يثير أسئلة كثيرة من قبيل:

            • ما أسباب هذه التخوفات من إبداء الآراء في نتاجات أقرانهم، أو محاورتهم في أفكارهم؟

            • ومن المسؤول عن حالة العقم الفكري التي أصابت الجميع، فلم تعد المطارحات الفكرية والسجالات ذات أهمية في ثقافتهم، لا على مستوى الكتابة فقط، بل مجرد المشاركة في السجال بإبداء الآراء؟

            • وما العوامل التي ساعدت على تنامي هذا الإخصاء الفكري – لو جاز المعنى – في وادينا الطيب؟

ومن ثم:

            • ما البديل لتحفيز العقل العربي، للدخول في معترك السجال، وتنشيط ثقافة السؤال وما يتبعها من مغايرة، واختلاف؟

            • كيف السبيل إلى إثراء الوعي الفكري والنقدي؟

هذا الغياب لثقافة الحوار والسجال، يؤكد فيما يؤكد فشل المشروع النهضوي الذي دعا إليه الرعيل الأول من المفكرين والأدباء الذين اتصلوا بالآخر، ولم يقعوا رهينة الاتّباع والتقليد، وإنما عملوا على خلق حوار خلّاق وبنّاءٍ معه، بهدف استثمار منجزه الفكري والتنويري في إثراء ثقافتنا العربيّة، وتنمية وعينا النقدي والفكري. وهذا الفشل ما هو إلا تجسيد حقيقي لشيوع ثقافة المهادنة القائمة على الخضوع والطاعة، والتي هي نِتاج الدكتاتوريات السياسية، والأبوية الثقافيّة، بما تبنته الأخيرة من سياسة التدجين، والإخصاء بالمعنى المجازي، وهو ما ولّد جيلاً بل أجيالًا تابعة لا تُعْمل العقل، وهو ما كان سبب أزمتنا التي جعلت البعض يبحث عن أسباب التخلّف الذي صرنا فيه!

كما يستدعي في أحد جوانبه مساءلة (حقيقية وجادّة) لمفهوم النخبة، بما يستدعيه المفهوم – لما يحمله من خصوصية تقرنه بمفهوم المثقف العضوي عند غرامشي – من مقارنة بين المفهوم ذاته في الأجيال السّابقة، حيث استطاع هؤلاء مع بداية القرن الماضي لأن يتمثلوا المفهوم تمثّلاً حقيقيًّا، فرأينا سجالات طه حسين وعباس محمود العقاد، وقبله طه حسين ومصطفى صادق الرافعي، ثم محمد فريد وجدي مع إسماعيل أدهم، ولويس شيخو وأنستاس الكرملي، وأمين خالد ولويس شيخو، وأحمد زكي باشا ونقولا حداد، وسلامة موسى وساطع الحصري… وغيرهم ممن كانوا يتبارون في السجالات الفكرية التي كانت تتمحور حول الكثير من القضايا على نحو: اللغة العربية والعامية والفصحى، والإقليمية في الأدب، والأدب المهموس والصادق، والدفاع عن البلاغة، والعرب وماضيهم والعلم والدين، ومستقبل الثقافة،والاستشراق والتراث اليوناني وغيرها من قضايا، وغيابها يشير إلى العقم الفكري، وربما هو المعنى الذي تحوّط الجراح من ذكره صراحة.

عدّ الجرّاح حالة العزوف التي أبداها أهل الفكر والأدب عن التفكير – مجرد التفكير – في ضرورة الحوار، “تعبيرًا عن نوع غريب من التقوقع على الذات والاكتفاء المرضي بما لديها، وعن يأس، ربما، من الآخر، وشكّ في الذات أيضًا، محمول على خوف من أن يقحمها الحوار في امتحان يعرّي أعماقها، ويكشف عن خلل تستشعره ولا تقوى على مواجهته (مجلة الجديد: ص 8). أتفق معه تمامًا في هذا التشخيص لحالة العزوف التي بدت كردة فعل على دعوات الحوار والسّجال، وإن كنت أعتبرها – من جانبي – تعبيرًا عن حالة فقر وخواء فكري، فكما يقول المثل “كل إناء بما فيه ينضح“، فالتخوّف له أسبابه الأخرى، التي تكشف – في أحد جوانبها المضمرة والتي بالاحتجاج والحجاج والمحاوارة ستنكشف – هشاشة هذه الثقافة التي يحملها أهل الفكر والأدب هؤلاء – في كثير منهم – إضافة إلى حالة التطاوس التي صار عليها الأدباء، فهم لا يلتفتون إلى ما يكتبه الآخرون، فمحور أحاديثهم وقراءاتهم متعلّق بذواتهم التي تضخمت ولا نعرف لماذا؟ هذا التباهي الطاووسي مع الأسف جعل الذات منغلقة على أناتها، غير قابلة للانفتاح على الآخر والاستفادة من تجاربه، بل صارت التجارب الإبداعيّة على تعددها (شعر ورواية) مكرورة، لا فرق بين ما ينتجه زيد أو عبيد؛ فالجميع يدورون في دائرة أو حلبة واحدة، هي دائرة الذوات المتضخمة، ومع الأسف متضخمة بلا سبب حقيقي.

حالة العزوف عن الحوار والسِّجال، قد تكون نتيجة طبيعيّة لتأزم الوضع السياسي، وانسداد أفق وطاقات التعبير، وهو ما كان له مردوده على مستوى الفكر  والأدب، فما غرسته السياسة، وفعلها القبيح، أثمرته الثقافة خوفًا وريبة وعدم ثقة في الآخرين، ومن ثم فلا مناص إلا الارتداد إلى دائرة الذات، والانغلاق في بوتقتها، وهو الأمر الذي يحتاج إلى ممارسات جديدة تعيد إلى الذات ثقتها في نفسها أولاً وفي الآخر.

المراجعة والمساءلة

لوحة: سعد يكن
لوحة: سعد يكن

ومع عدد الجديد الأول في سنتها الثامنة (العدد الخامس والثمانين فبراير 2022)، لم تتوانَ الجديد عن طرح السؤال والحوار، فحمل العدد ملفًا عن السنوات السبع الماضية، شارك فيه نخبة من كتابها (د. نادية هناوي، د. عبدالرحمن بسيسو، ممدوح فرّاج النّابي، د.أحمد برقاوي، عائشة بلحاج، وارد بدر السالم، مفيد نجم، عواد علي، هيثم حسين، مخلص الصغير، آراء عابد الجرماني، محمد ناصر المولهي، باسم فرات، غادة الصنهاجي، عمارة محمد الرحيلي) وأهم ما تتسم به هذه الأسماء التي وضعت مسيرة المجلة طيلة السنوات الماضية، تحت دائرة المساءلة والمراجعة والمحاسبة في ضوء مانيفستو التأسيس، والذي ابتغت فيه (أو ألزمت به نفسها) أنْ تَكون “مِنْبرًا عربيَّا لفكرٍ حُرٍّ وإبداعٍ جديدٍ”، أنها أسماء تنتمي إلى أجيال مختلفة، وجغرافيات مختلفة، وأيديولوجيات مختلفة، واتجاهات أدبية وفكرية مختلفة، وخلفيات علمية متعدّدة، مما يعطي ثراء وتنوعًا للقراءات، وفحصًا دقيقًا، ومن ثم جاءت القراءات تشمل المضمون الفكري والإبداعي، والشكل الجمالي الذي اتسم بالفرادة مقارنة بباقي المجلات، سواء في صيغتيها الورقية أو الإليكترونية.

ومع اختلاف الأجيال والثقافات والأيديولوجيات إلا أن كليهما (جيل الكبار والشباب) اتفقوا على ما تميزت به المجلة من خصال، يمكن أن نبرزها في الآتي، قوة الأفكار وعمقها، وجدة المعالجات والطرح، وغياب العنصرية والاحتكار، فجميع الفنون من شعر ورواية وقصة ومسرح وسينما، وفنون تشكيلية، وغرافيكي، وحوارات ومقالة، متجاورة، ومتساوية على صفحاتها، إضافة إلى اتساع أفق المجلة لكافة الآراء، واستيعاب كافة أشكال التمرد والمغامرات التجريبية على كل الأصعدة.

الأفكار المطروحة التي أثارها الكُتّاب (على اختلاف أجيالهم) في مقالات هذا الملف، تدخل في باب النقد والمراجعة لمسار المجلة خلال سنواتها السبع، إلى جانب كونها أطروحات حول حاضر الثقافة العربية في علاقتها بـ”المنبر الثقافي”، هي محاولة للإجابة عن سؤال مجهول أو مضمر، مفاده؛ لماذا استمرت المجلة في ظل شروط اللحظة الراهنة، وما بها من تعقيدات وعثرات بعضها بفعل الطبيعة (كجائحة كورونا) وفي الوقت ذاته إجابة مضمرة عن أسباب البقاء والاستمرار مع تعقد الأزمات وغياب العقل النقدي؟

فالهدف الحقيقي من وراء المقالات (فهي متنوعة ما بين التقييم النقدي، والشهادات والآراء والتجارب الشخصية) ليس المديح أو الإطراء على صُنّاعها (وهم أحق به وأجدر)، بقدر ما هو المساءلة والمراجعة والتقييم، في جانب من جوانبه، وتجديد العهد، وزيادة سقف الأمل بالقادم، بمواصلة المسيرة، والحثّ على المزيد من الطموحات في جانبه الثاني. ومن هنا نرى أن معظم كتاب الملف تطل إحدى عيونهم على واقع المجلة وما حققته بالفعل من، تجديد وتثوير، وما حثت عليه من مغامرة وابتكار، والعين الأخرى ترنو إلى المستقبل، لاستشراف مآلاتها، واستكشاف مغامرتها الجمالية والتعبيرية الجريئة. وما تتطلع إليه من موضوعات وقضايا ومحاور وملفات، وقبل هذا أسئلة!

فيسعى الدكتور عبدالرحمن بسيسو في مقاربته “خصوبة سابوعيّة” بما تحمله دلالة الخصوبة من تجدد واستمرار ، لمساءلة السنوات السبع في ضوء بيان التأسيس الذي حدّد مكَوِّنات هُويَّتها التنويريَّة الرؤيويَّة والجماليَّة التي شَرعتُ أعدادها المتوالية في ترجمتها على مستوى النصوص المكتوبة واللوحات التشكيليّة وغيرها؛ بادعائها أن تَكون “مِنْبرًا عربيَّا لِفِكْرٍ حُرٍّ وإبداعٍ جَديدٍ”، وهل بالفعل تحقّق ما أملته المجلة في بيان تأسيسها، أم أنها خرجت وحادت عن المنافيستو، وعبر مقارباته وقراءاته (وكذلك مقارناته) لأعداد مختلفة من المجلة، فهو لا يخايله أدنى شك في نجاح المجلة فيما سعت إليه، بل يقطع بأنها – حسب قوله – “جلَّت وفَاءها المُطلقِ لهُوِيَّتها التي بلورها بيانُها التَّأسيسيُّ، فكانت ”موئلاً جامعًا للقاء الأفكار” وحاضنة خصبة وصالحة لاستكشاف الأسئلة الجديدة والمُغامرة الأدبيَّة والفكريَّة المُقبلَة”؛ فكانت هي المعين الذي يصب فيه كل جديد ومهادًا للمغامرة ولكل مبتكر، دون أن تكف وهي تؤدي واجبها عن “احتضان الكتابة الجديدة، والتَّسليم بحريَّة الكاتب، وجرأة البحث، وحوار الأفكار”؛ ولا عنْ “حَضَّ الكُتَّابَ على مباشرة سجال حول شتَّى القضايا الشاغلة في الفكر والأدب والفن والاجتماع”؛ وعلى الإسهام الفَعَّال في مسيرة الانتقال من – كذلك – المَجلَّةُ الأجدرُ بالبقاءِ، والتَّجدُّد، ومتابَعَةِ الوجودِ”، وإن كان رهانه هذا باقٍ ومستمرٍ “طالمَا ظلَّ في الوجودِ جديدٌ يُنشَدُ، ويُرهَفُ السَّمْع لالتقاطِ نِداءاتِه الحفَّازةِ، فَيُنهَضُ الوعي الإنسانِيُّ الخلَّاقِ لِنُشْدانِه، ولإنْهاض حَراكات إدراكه الوطنيّ والإنْسانيّ الجمعي، تلك الكفيلَةُ بِتجلية وجوده واقعاً يَتحقَّق في بلاد العرب، وفي بلاد كُلِّ النَّاسِ في شَتَّى بِقاع الأرضِ، وأحيازِ العالم” (مجلة الجديد، عدد فبراير 2022، ص 130).

بوتقة الأفكار المتمردة

◙ هذا الغياب لثقافة الحوار والسجال، يؤكد فيما يؤكد فشل المشروع النهضوي الذي دعا إليه الرعيل الأول من المفكرين والأدباء الذين اتصلوا بالآخر، ولم يقعوا رهينة الاتّباع والتقليد

يتفق المثقفون في قيمة المنجز الفكري والأدبي الذي قدمته المجلة خلال رحلة مسيرتها السابقة (السابوعية) فقد اعتبرتها غادة الصنهاجي “رحلة نور يبدّد بعض الظلام المعرفي الذي ما انفك يتراكم سواده في العقول مع تراجع الإبداع ونقصان الاهتمام بما تنتجه الأفكار”، أما نادية هناوي فرأت أنها رسخت “الفكر المنفتح الحرّ المؤمن بالتعدّد والاختلاف فلا شللية ولا منبرية، بل صوت عام لا يعرف احتكارًا باشتراطات وولاءات معينة كما لا يعترف بنخبويّة تتعكز على أسماء معروفة وتجتر أقلامًا بعينها من دون غيرها فتستكتبها” . أما هيثم حسين فيرى المجلة أنها بمثابة البؤرة المركزية التي استقطبت الأصوات المهاجرة، والنائية والمهمشة (الحركات الشعبية في البلدان العربية)، وكذلك الأصوات الجديدة، وهو ما يشاطره فيه الرأي محمد ناصر المولهي، وعائشة بلحاج، فعندهما المجلة كانت بمثابة البوتقة التي استوعبت تجارب أجيال مختلفة، وجغرافيات متنوِّعة، والأنواع الأدبية جميعها بلا استثناء، وإن كان هيثم حسين يضيف بأنها صارت أحد حرّاس الذاكرة الأدبيّة (وما يرتبط بهويتنا)، في ظل عالم ينحو إلى الإغراق في السرعة، فيسعى إلى تمييع كل شيء، وكأن غرضه “محو ذاكرة الأجيال”، في إشارة لقطع اتصالها بماضيها، وهو ما عملت عكسه أو ضده المجلة.

وقد نمّت “مجلة الجديد“ السّجال على صفحاتها بطريق غير مباشر، ليس دفعًا أو تحريضًا (كما سعى رئيس التحرير بمحاولات استثارت أصحاب الفكر والأدب )، بأن كانت بمثابة المغامرة في التحريض على الكتابة، وتغيير النظرة إلى الفنون، فكما يشير أحمد برقاوي في مقالته “تجديد السّؤال” بأن المجلة حرضت “الكتاب المهمومين بالحرية”، لأن ينظروا إلى التاريخ “من زاوية المثقف الكاتب، لا من زاوية الأكاديمي الكسلان”، وأيضًا بما خلقته من ليبرالية واختلاف مع الآخر بدون تجريح، فأثارت السجال من زاوية أخرى فعلى صفحات المجلة سعى – أي برقاوي – إلى الدفاع عن ضرورة حضور الذات، بل وأعلن ولادة الذات في مغايرة للنظرية الغربية التي أعلنت وفاة الذات، ومن ثم صار السّجال مع ثقافة أخرى/غربية، قلدها البعض، وكرر مقولاتها، في مخالفة لسياق وواقع عربي له رهاناته الخاصّة، وبذلك صارت الذات على صدر الجديد بمثابة الفاعل، وقد خرجت من الكهف لتقيم العلاقة بين الحرية والإمكان.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.