حوار‭ ‬المختلف‭ ‬والمتعدد

الأربعاء 2015/04/01
رسمة لفيصل لعيبي

عادة ما يوجد في كل مجتمع نوعان من الثقافة، ثقافة نخبة وثقافة عامة، أو ثقافة عالمة وثقافة شعبيّة (‬ثقافة الناس). وللتعبير عن النخبة الثقافية استخدم المفكرون عادةً عدداً من المصطلحات أبرزها‭:‬ مصطلح “الأنتلجنسيا” بصبغته الماركسية، ومصطلح “المثقف العضوي” وفقا لنظرية غرامشي، ومصطلح “المفكر الرسولي” صاحب الرسالة وفقاً لمصطلح إدوارد سعيد، ومصطلح “المفكر النقدي” وفقا لمنظور نيتشه وسارتر‭.‬

الثقافة الأولى تتكون بطريقة فردية واعية وتكون أكثر درايةً ببنيتها العميقة، وذلك لأن أصحابها، وهم قلة في مقابل كثرة، ونُدرة في مقابل وفرة، يتملّكونها عن طريق القراءة والتأمل والحوار الرفيع والمقارنة وطرح الأسئلة‭..‬ والفردية هنا صفة تصنعها الموهبة والتعلم والمنافسة، وتدلل على الجهد والمكابدة بما يفضي إلى علميّة الفرد ومعرفيته في حقله، حسب رأي الناقد السعودي صالح زياد‭.‬

أما الثقافة الثانية فإنها ليست كذلك، بل تتكون بطريقة غير واعية وغير مقصودة، حيث يتشرّبها أبناء المجتمع ويتشبعون بها مثلما يتنفسون الهواء، كما يذهب الباحث السوري عبدالكريم بكار‭.‬ وهي تتمثّل في التعبير الشفهي (غير المكتوب)، مجسداً في أجناس مختلفة من الفنون الحركية والبصرية والسمعية مثل الغناء والأمثال والسير الشعبية والنحت والفن التشكيلي والنقش على الخشب والمعادن والجبس والرخام والجسد (الوشم)، والتطريز والحياكة‭..‬ وغير ذلك، والتجليات المختلفة في المأكل، والملبس، وطقوس العبادة، ومراسيم الاحتفالات والأعياد والمواسم والمآتم، فيما يسمى بمنظومة العادات والتقاليد والمعتقدات‭.‬ ويلاحظ عبد الإله بلقزيز أن هذه الأشكال التعبيرية الشعبية لا تقل قيمةً عن النصوص المكتوبة في مضمار التعبير عن نوازع الذات وحاجاتها الجمالية، والوجدان الفردي والجمعي، وعن نوع تفاعلها مع العالم المحيط، وعلى صفحتها، تمكن قراءة المجتمع الذي تعبِّر عنه، وبنيته العقلية ‭-‬بتعبير كلود ليفي شتراوس‭-‬ وشخصيته الحضارية، ففيها يخرج ما بداخل مستودع الذاكرة من معطيات قابلة للتحليل الاجتماعي‭.‬

إن ثقافة النخبة تتسم بطابعها المنهجي الدقيق والمؤسسي، وبخاصيتها التدوينية، في حين يغلب على الثقافة الشعبية الطابع الشفهي العفوي التلقائي، والموروث الذي يجسد تجارب المجتمعات الشعبية ‭-‬تاريخـيّا‭-‬ في مختلف أصعدة حياتها‭.‬

وقديماً قسم الغزالي الناس إلى عامة وخاصة، وقال “خاطبوا الناس على قدر عقولهم”، ذلك أن الكلام في المسائل الدقيقة أمام العوام هو عبث لا طائل منه‭.‬ ويُفهم من قوله أن وجود مستويين مختلفين من الوعي والثقافة أمر لا مناص منه في كل زمان ومكان، وأن محاولات إحداث تمازج بينهما لم يكن مشجعاً على الإطلاق‭.‬ ويشكّل هذان المستويان ثنائيةّ ترقى ‭-‬في تأثيرها‭-‬ إلى مستوى الازدواجية القابلة لتوليد كل أنواع الانقسام والقطيعة، حسب تعبير الباحث المصري محمد حسن عبدالحافظ، لكن من جانب آخر يكمن عقل الأمة ورشدها في المستوى الأول، بينما يكمن وجدانها في المستوى الثاني‭.‬

كان مفهوم النخبة، ولا يزال، يشكّل موضوعاً للبحث والتحليل والتنظير منذ بداية القرن الماضي حتى اليوم، حيث تقاطرت حوله النظريات، وتمحورت حوله الدراسات الاجتماعية والسياسية دون انقطاع‭.‬ ومن بين المفكرين الذين كانت العلاقة بين ثقافة النخبة والثقافة الشعبية مدار اهتمامهم، المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، والفرنسي بيير بورديو، فقد بنى الأول مشروعه الأيديولوجي الاستراتيجي على تحطيم نخبوية الثقافة وتعميم المعرفة الفلسفية، بالإجهاز على ذلك الوهم الذي يرى في الفلسفة شيئاً غريباً وصعباً لمجرد أنها النشاط الفكري لفئة من المتخصصين أو الفلاسفة المحترفين‭.‬ وأصبح همّ غرامشي إثبات “أن كل البشر فلاسفة”‭.‬ وبالفعل، كان غرامشي يرى في كل الناس فلاسفةً، بمعنى مختلف عن الفلسفة النظامية للمتخصصين، وأطلق من ثمّة على تلك الفلسفة الملائمة للجميع اسم “الفلسفة العفوية”، كما يقول عبدالحافظ‭.‬

لكن تقييم غرامشي السائد في كتاباته حول الثقافة الشعبية كان سلبياً، كما يعتقد الباحث عصام فوزي في بحثه “آليات الهيمنة والمقاومة في الخطاب الشعبي”، المنشور ضمن كتاب “غرامشي وقضايا المجتمع المدني”، فقد عرض الباحث الإيطالي ألبرتو ماريا كيريسي تصنيفاً للتعارضات التي أقامها غرامشي بين خصائص الثقافة الفولكلورية الشعبية وثقافة النخبة (‬الثقافة المتخصصة)، وهو تعارض ماثل بين الطبقات الخاضعة والطبقة المهيمنة‭:‬ فالأولى تحمل تصوراً سلبياً للعالم، وتتسم بكونها خاضعةً بسيطةً زائفةً تضمنيةً وذات مركب غير عضوي وتنظيم داخلي متشظ، في حين أن الثانية مهيمنة عالمة أصيلة صريحة ذات مركب عضوي وتنظيم داخلي موحد‭.‬

وذهب غرامشي أبعد من ذلك حينما أكد أن الأدب الشعبي، بالمعنى الدنيء، هو انحطاط “سياسي‭-‬تجاري” للأدب “القومي‭-‬الشعبي” الذي نعثر على نماذجه في المآسي اليونانية والشكسبيرية‭.‬ ومن ثمة فإنه لم يلقَ الضوء ساطعاً على الثقافة الشعبية إلا ليلقي بضوء أكثر سطوعاً على ضرورة نقدها وتحويلها، حيث تأخذ بعد ذلك نعتاً محددًا هو‭:‬ الأدب “القومي‭-‬الشعبي”‭.‬ بمعنى آخر إن دعوة غرامشي إلى الاقتراب من ثقافة الجماهير فارغة من المعنى إذا لم تُدرك بوصفها دعوةً حزبيةً لخلق جماهير مثقفة، حسب رأي فيصل دراج، في بحثه “الثقافة الشعبية في سياسة غرامشي”، المنشور ضمن كتاب “غرامشي‮…‬” آنف الذكر‭.‬

رفض بورديو، في سياق نظريته العامة حول الهيمنة، النظر إلى المجتمع كما لو كان وحدةً متكاملةً ومنسجمةً (التوجه البنيوي الوظيفي)، أو كتلاً منقسمةً حسب ملكية وسائل وقوى الإنتاج بين المالكين وغير المالكين (‬التوجه الماركسي)، بل اعتبره، كما يقول الباحث المغربي حساين المأمون، فضاءً متشكلاً من حقول (سياسية علمية أدبية جامعية قانونية دينية صحفية تربوية‮…) يشغلها مفوضون مهيمنون وآخرون مهيمن عليهم، بوساطة الرأسمال، لا الرأسمال المادي فحسب، بل الرأسمال الرمزي والاجتماعي والثقافي كذلك‭.‬

وعاين بورديو، مثل غرامشي، الثقافة الشعبية في صورتها السلبية وفي تكريسها لفكر الهيمنة (الذكورية والسلطوية)، وفي اختزالها الممارسات الشعبية في صورها الهمجية أو السوقية‭.‬ ورأى أن “عبادة الثقافة الشعبية” تنهض ‭-‬نخبويّاً‭-‬ على فكرة “احترام الشعب”، على نحو يُعاد فيه إنتاج القيم الرمزية الكامنة في الثقافة الشعبية في “الكتابة النظرية” التي تقوم بدورها على تكريس الهيمنة‭.‬ وتصور بورديو أن هذه الفعالية المنحدرة للثقافة الشعبية تمثّل حصاراً لها، وعزلاً لها عن تحقيق ثورة وتمرّد على الحط والخضوع والإذعان‭.‬

إلاّ أن التفاوت بين الثقافتين بقدر ما هو مصدر للتوتر والنزاع يمكن أن يكون في الوقت ذاته مصدراً للتطوير نحو الأفضل إذا أديرت العلاقة بينهما بما هو مطلوب من الذكاء والوعي‭.‬ وتأكيداً لهذه العلاقة نرى، مع صبري حافظ، أن ثمة مستويات متعددة من الخطاب الثقافي، بعضها يحظى بانتشار واسع وبعضها الآخر يظل محصوراً في دائرة أضيق، وهذا أمر قائم في كل الثقافات تقريباً‭.‬

وتأتي حيوية أيّ ثقافة من خلال الحوار بين هذه المستويات المتعددة، لأن أيّ قطيعة بين هذه المستويات، ستؤدي إلى عزلة الثقافة المسماة بثقافة النخبة عن الثقافة الشعبية، وأن وعي الثقافة الشعبية بوجود ثقافة النخبة وفعاليتها يؤدي إلى الارتقاء بمستويات هذه الثقافة العريضة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.