شفق الكائن ودوامة الغياب

فيلم "دوامة " للمخرج الأرجنتيني غاسبار نوي
الخميس 2022/09/01

طرحت فكرة أمراض الشيخوخة أكثر مرة في السينما، وبالتحديد تناولها لموضوع مرض الزهايمر، على سبيل المثال، فيلم “الأب ” الذي صدر في عام 2020 لفلوريان زيلير وبطولة أنتوني هوبكنز الذي حصل على عدد من الجوائز . وكذلك الفيلم الأميركي “ما أزال أليس” وهو فيلم دراما تم إنتاجه في عام  2014، بطولة جوليان مور وأليك بالدوين وكريستين ستيوارت وكايت بوسورث. المخرج الفرنسي (الأرجنتيني الأصل) المثير للجدل غسبار نوي الذي ألهمه نزيف دماغه شبه المميت والذي أصيب به عام 2019، وكذلك حالة والدته التي  كانت تعاني من مرض الزهايمر في آخر أيامها في كتابة وإخراج فيلم “فورتكس” أو “دوامة”. وعلى الرغم من أن منتج الفيلم أوضح بأن الفيلم ليس سيرة ذاتية، إلا أنه من الصعب عدم تحديد بعض أوجه التشابه الأساسية، لكون هذا الفيلم مستوحى أكثر بكثير من الحياة الحقيقية.

يبدأ الفيلم بنغمة رقيقة “إلى جميع أولئك الذين ستتحلل أدمغتهم أمام قلوبهم”. يتم تقديم أرجينتو وليبرون وأليكس لوتز (الذي يلعب دور ابنهم)، جنبا إلى جنب مع سنة ميلادهم، حيث يلوح الموت في الأفق منذ البداية. مرة أخرى، رغم النغمة اللطيفة، لكن هذا لا يجعل الأمر أقل رعبا. يقول المخرج نوي “عندما تذهب إلى مستشفى للأمراض العقلية ويجلس الأشخاص المصابون بالخرف على كل سرير، فهذا أمر مخيف حقا”. يبدو الأمر حقا وكأنه فيلم زومبي. هذا هو السبب في أن فيلمي مخيف. هناك شيء من الرعب النفسي. هل سيبقون على قيد الحياة؟”.

يقدم المخرج نوي اثنين من الممثلين الرواد وهما الإيطالي  المخضرم مخرج أفلام الرعب داريو أرجينتو وتشاركه الفرنسية فرانسواز ليبرون وإظهار السنوات الحقيقية لولادتهما، 1940 و1944 على التوالي. الزوجان ليس لهما أسماء في الفيلم، فهما مجرد زوج وزوجة، مسنّان يعيشان في شقة في باريس مليئة بالكتب والذكريات، الرجل ناقد سينمائي ومؤرخ وباحث في مجال الأفلام ويعاني من مرض في القلب. والمرأة طبيبة نفسية متقاعدة تعاني من الزهايمر ومع ذلك تستمر في كتابة الوصفات الطبية لنفسها. تمتلئ شقة الزوجين من الأرض إلى السقف بالكتب وتغطى جدران  الشقة بالملصقات والبطاقات البريدية ومنشورات الأفلام القديمة. وبعد سلسلة من اللقطات المضادة للزوجين وهما ينظران إلى بعضهما البعض من النوافذ المقابلة، ثم يتشاركان كأسا من النبيذ وبعض الطعام على طاولة في الشرفة.

 يرافق ذلك مقطع فيديو قديم لمغنية فرنسية شابة فرانسواز هاردي وهي تغني أغنية ساحرة “صديقتي الوردة”، حول الحياة القصيرة لوردة جميلة. التناقض بين شباب المغنية وموضوع الموت في الأغنية يضيف طبقة من التأثير مع بداية الإهداء “إلى جميع أولئك الذين سيتحلل دماغهم أمام قلوبهم”، وهي إشارة إلى شخصية ليبرون غير المسماة والتي تنسب إليها اسم “الأم”. يقدم الفيلم بالفعل صورة مؤلمة لما يمكن أن يكون عليه العقل المتدهور. يستخدم نوي شاشة مقسمة للفصل بين التجارب المختلفة للزوجة والزوج أثناء اقترابهما من نهاية قاتمة وغير عاطفية. ينشغل الزوج بإنجاز كتابة “عن السينما والأحلام” في حين تتجول زوجته في أرجاء الشقة بلا هدف وتظهر بشكل لا تستطيع أن تتذكر ما يفترض أن تفعله .

يفتتح الفيلم بمشهد لحوار بين اثنين من كبار السن لرجل وزوجته وعبر نافذتين متقابلتين وتخبره الزوجة بأن كل شيء جاهز وتقصد المائدة التي يتوجهان إليها ويتبادلان الأنخاب وتقول الزوجة “الحياة حلم، أليس كذلك؟ ويرد الزوج: نعم، إنها حلم داخل حلم”، وهي قصيدة للأميركي إدغار آلان بو. ثم يعمد المخرج على إبراز أسماء الممثلين، ثم تظهر على الشاشة أسماء الممثلين وتاريخ ميلادهم. فرانسيس ليبورن (1944) وهي ممثلة فرنسية قديرة، وداريو أرجينتو (1940) هو مخرج سينمائي إيطالي ومنتج وكاتب سيناريو واشتهر بأفلام الرعب. بعد الانتهاء من الأغنية ينكشف المشهد عن الزوجين وهما نائمين، في تلك اللحظة يستخدم المخرج تكنيكا رائعاً ألا وهو تقسيم الشاشة الى نصفين وكل جزء يتابع حركة الزوج والزوجة، تنهض الزوجة أولاً، وهي تائهة وتبحث عن شيء مفقود ومن حركة عينيها يظهر المخرج حالة التوهان فهي طبيبة نفسية متقاعدة وهي الآن تعاني مرض الزهايمر، تمارس ليبرون روتينها الصباحي، المتمثل في إضاءة الموقد لقهوة زوجها، تعد لها فنجان القهوة وبعد الانتهاء، تكتب وصفة طبية لها لا يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى يتجلى ذلك، حيث تغامر ليبرون بالخروج لإسقاط كيس من القمامة في سلة المهملات، ترتدي الكنزة الحمراء وتنزل من الشقة وتنزلق إلى الخارج وهي تائهة لا تعرف وجهتها، وحين تدخل المحل القريب من الشقة وتسأل عن لعب الأطفال، تتحرك في المحل وهي لاتعرف ماذا تريد !

أمراض الشيخوخة

تتجول الزوجة في السوق، لكنها لا تبحث في الواقع عن أيّ شيء. مع مرور الدقائق، ندرك أنها ليست متأكدة مما تفعله أو أين هي بالتحديد. إنها لا تتحدث كثيرا. عادة ما تتمتم بشكل غير مسموع أو تظل صامتة. وحين ينهض الزوج ينهض من الفراش، يذهب إلى المطبخ، ويسكب لنفسه فنجانا من القهوة ويتوجه إلى مكتبه في البيت لأنه يعمل على إنهاء كتابه عن السينما والأحلام ويبدأ بالعمل على الآلة الطابعة ويراقب المشاهد حركة الاثنين وهما في مكانيين مختلفين بفضل تقنية الشاشة المقسمة إلى نصفين، نسمع صوتا الراديو وحديثا عن الذاكرة السليمة والذاكرة المريضة والتي يصفها بالمحاصرة والتي تتألم على الدوام، يفتقد الزوج غياب الزوجة، يرتدي ملابسه ويهرع مسرعا للعثور عليها، يسأل في البداية صاحب المكتبة الذي يؤكد بعدم مشاهدته لها، أخيرا يعثر عليها في محل البقالة القريب ويشتري لها باقة من الورد ويعودا إلى المنزل، وبعد تقريعه للزوجة والتأكيد بعدم خروجها لوحدها في الشارع خوفا من الضياع ولكثرة الناس السيئين والوحوش في هذه المدينة الخطرة وينذرها، ولكنها تعترض على صفة “سيئين” وتشدد على أن الناس في الخارج طيبون وليسوا وحوشاً. ويرد عليها بأن العالم مليء بالمجانين وعليها أن تفهم ذلك. ويخبرها انه منشغل هذه الأيام في الانتهاء من كتابه عن السينما و الاحلام.

يستنجد الاب بالابن “إستيفان” ويقوم بدوره الممثل الكوميدي الفرنسي أليكس لوتز، وهو نفسه غارق في مشاكله الخاصة من إدمانه المخدرات، ومسؤوليته عن طفله الصغير “كيكي” الذي تركته زوجته له، يقترح الابن في انتقال الأم إلى دار لرعاية مرض الزهايمر لكون الأب مريض بالقلب وغير  قادر على السيطرة على أفعال زوجته وخاصة بعد فتحها لغاز الطباخ ونسيانه وكادت تسبب كارثة في البيت. رغم أن ابنهما “أليكس لوتز” ليس مفيدا كثيرا، لكن تعاطفه معهم يجعل من وجوده مبعث اطمئنان لوالديه لكن رعاية والديه خارج قدراته الحالية. الابن ستيفان يبذل قصارى جهده لمساعدة والديه أثناء محاولتهما البقاء مستقلين على الرغم من  كبر سنهما وأمراضهما. هناك مشهد غير عادي في النصف الثاني من الفيلم، حيث تتمتع ليبرون بلحظة من الوضوح عند مناقشة زوجها وابنها في كيفية تنظيم مستقبل عائلتهما الصغيرة.  شخصية الأب أرجينتو عنيدة ويرفض مغادرة الزوجة شقتهما، على الرغم من أن  العيش في مركز الرعاية سيكون أكثر ملاءمة لوضعها، لكنه  يصرّ على بقائها في الشقة وتحت رعايته، والتأكيد على هذه اللحظة غير العادية من التكاتف كعائلة. هناك أيضا المشهد الذي تظهر فيه الزوجة ولا تتذكر أين هي ولا تتذكر حتى زوجها! بل تخبر ابنها أنها تريد العودة إلى المنزل وأن شخصية أرجينتو تتابعها. ثم تطلب منه تحديد الرجل الغريب الذي يستمر في مضايقتها،  ولا تعترف به كزوج.  بينما يحاول ثلاثتهم تحديد ما يجب القيام به، يقترح الابن دار رعاية ويرفض الأب، يتبجح، ويردد “سيكون كل شيء على ما يرام، سيكون كل شيء على ما يرام”.

أداء الممثلة ليبرون طوال الوقت مقنع تماما لدرجة أنه يبدو وثائقيا عمليا، باعتقادي هذا المشهد كان أفضل لحظة تمثيل في الفيلم بأكمله. وقدمت ليبرون أفضل أداء في هذا المشهد. شيء آخر يجب التحدث عنه هو تقسيم الشاشة بين الزوج والزوجة. هذا التكنيك الذي استخدمه المخرج في عملية الفصل بينهما بحيث يمكنك رؤيتهما على كلا الجانبين، ويمكنك على سبيل المثال إلقاء نظرة فاحصة على الشخصين المسنين مباشرة بعد الوفاة المفاجئة للزوج. ونشاهد المزيد من البؤس عندما لا تفهم الزوجة ببساطة أن الزوج قد مات وتسأل ابنها عن حاله ومتى ينهض من غفوته.

يلعب المخرج الإيطالي داريو أرجينتو (وهو نفسه ليس غريبا على صدمة الجمهور) دور الأب الذي لم يكشف عن اسمه، وهو مثقل بمرض في القلب ويجهد نفسه من أجل استكمال كتابه عن علاقة السينما بالأحلام أو اللاوعي وبالتأكيد لن يكمله أبدا. هذان الاثنان يحبان بعضهما البعض ويهتمان برفاهية بعضهما البعض ولكن في سن الشيخوخة. وذلك عن طريق تقنية جديدة تتمثل في شاشة منقسمة تصور الفجوة بينهما – رمز لها  المخرج نوي بشريط فاصل أسود – يكاد يكون من المستحيل إغلاقها مرة أخرى، فعندما تستيقظ الزوجة النائمة بجانب زوجها، تنقسم الشاشة تدريجيا إلى قسمين. يظهر في القسم الأيسر منها الزوج وهو مستمر في النوم، بينما نتابع على القسم الأيمن الزوجة ليبرون وهي تنهض وتذهب إلى المطبخ لإعداد القهوة وتبدأ من هذه اللحظة تجارب الزوجين في التباعد والتداخل. وبينما تتجول ليبرون في المكان بحثا عن شيء نسيته، يجعلك انقسام الشاشة لا تعرف تماما المكان الذي تبحث فيه، خاصة أنك لا تريد أن تغمض عينيك عن أيّ جانب من جانبي الصورة. مما جعل  المخرج غاسبار نوي أكثر إبداعا بابتكاره في تصوير كل شيء في شاشة منقسمة باستخدام كاميرتين محمولتين تتابعان أبطاله طوال الوقت حتى عندما يجلسان جنبا إلى جنب على الأريكة أو يستلقيان معا في الفراش.

في أحد المشاهد، يجلس ستيفان ووالدته على جانب واحد من طاولة غرفة الطعام بينما يجلس والده وابنه الصغير على الجانب الآخر، الشاشة المقسمة باستمرار للفيلم. يوبخ الجد حفيده لكونه صاخبا جدا مع ألعابه، ثم فجأة، تبدأ الجدة – التي يبدو أنها لحظة مفاجئة من انكسار في الروح – في البكاء. يصل الزوج عبر خط الشاشة المقسمة ليلمس ذراع زوجته بشكل مطمئن، مخترقا الفجوة الحالية وغير المعلنة بينهما. في اللقطة الأولى، لم تبك فرانسواز، ولكن في الثانية انفجرت في البكاء حين تلمح وجه الطفل الصغير القلق لأنه يرى جدته تبكي. ربما شعر داريو بالقلق على الممثلة، لأنها كانت تبكي حقا ولأنها كانت تؤدي المشهد ذلك بشكل مبدع ومؤثر. وعند سؤال المخرج نوي عن هذاه المشهد و كانت الإيماءات مثل يد أرجينتو عبر الشاشة المقسمة – الحب على الرغم من حتمية الخسارة – كافية، أجاب قائلاً “رأيت أمي عندما كانت حالتها متأخرة جدا في الخرف، ولم تفهم ما كنت أقوله، ولم أستطع أيضا فهم ما كانت تدركه لأنك لا تعرف ما هي الرؤى التي يمتلكها هذا الشخص، ولكن هناك في بعض الأحيان لحظات من الفرح الكبير مجرد لمس الشخص المريض، أو عقد أيديهم”.

سينما

ربما يكون فيلم “دوامة” لغاسبار نوي هو الفيلم الأكثر إنسانية صنعه على الإطلاق. ومع ذلك، بطريقة أو بأخرى، إنه أيضا الأكثر قسوة، الفيلم يتابع زوجين مسنين أثناء تعاملهما مع الضعف والخرف. باستثناء اللحظات العرضية حيث تتبع الكاميرا ابنهما الذي يطلق عليه اسم ستيفان. إنه يسمح لنا برؤية ما يفعله أيّ من الوالدين بصرف النظر عن بعضهما البعض. وحتى في المشاهد عندما يكونون معا، يخلق حاجزا مفروضا بينهما تماما كما يفعل الخرف او الزهايمر بفريسته، يستخدم نوي تكنيك  تقسيم الشاشة في الغالب لتصوير نوع من الوعي المزدوج. لكن المخرج يغيرها من حين لآخر، لاسيما عندما يزور نجل الزوجين، ستيفان (أليكس لوتز) شقتهما المزدحمة مع ابنه الصغير كيكي. في هذه المشاهد، يتم تدريب العدسات على نصفين في نفس اللحظة. لكن مواضع الكاميرا ليست متزامنة تمامًا، الدوامة هي تصوير قاتم ومؤثر لكيفية تعامل الأسرة مع الموت ومرض الشيخوخة (الزهايمر).

يقدم هذا الفيلم المؤثر تجربة المرض التي تتعرج نحو النهاية الحتمية، حيث يصبح من المستحيل تجنب الشعور بالخوف من الأماكن المغلقة بسبب واقع الزوجين. الدوامة هي انطباع  المخرج غاسبار نوي الشديد عن شفق الحياة واختبار عتبة إنسانيتنا. هذا الفيلم يكشف مرة أخرى عن شر الحياة ليراه الجميع، سواء أحببنا ذلك أم لا. ولا يخلو الفيلم – الذي يصل وقت عرضه إلى ساعتين ونصف الساعة – من لحظات حساسة نكأت الآلاف من الجراح التي تجعل العلاقات الطويلة تتلاشى على مر السنين، حتى مع بقاء الحب؛ فالأم والأب يريدان الأفضل لبعضهما البعض، وهما محبوبان من ابنهما وحفيدهما. لكن الفيلم يسعى لاكتشاف أن الحب قد يكون حصنا ضعيفا جدا في مواجهة اعتلال الصحة وبداية الرحلة نحو الموت.

فيلم “فورتكس”.. نظرة سينمائية واقعية على أمراض الشيخوخة، يوفر نظرة ثاقبة وواقعية تماما، لما سيواجهه العديد من البشر وعاشه الكثير من الناس مع أجدادهم ووالديهم. ويستكشف الفيلم التقدم في العمر وما الذي يعنيه فقدان الذاكرة شيئا فشيئا، ويجد المشاهد نفسه أمام شخصين كانا يحبان بعضهما بعضا، ويهتمان برفاهية بعضهما البعض، ولكن مع تقدمهما في السن يُصبحان كزوجين غرباء يعيشان في عالمين مختلفين. وهذا يظهر كيف يعاني شخصان من عملية التقدم في العمر وإمكانية أن يصبح المرض خارجا عن السيطرة، وفي يوم من الأيام ستتعين علينا مواجهة أمراض الشيخوخة إذا عشنا عمرا طويلا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.