الميتاسردية‭ ‬وإشهارية‭ ‬الروائي‭ ‬المنزوي

الثلاثاء 2016/11/01
لوحة: عادل داؤود

تظل‭ ‬الفعالية‭ ‬النقدية‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬قراءة‭ ‬فاعلة،‭ ‬وإنّ‭ ‬استراتيجية‭ ‬الناقد‭ ‬تنخرط‭ ‬في‭ ‬المسار‭ ‬الذي‭ ‬تتحقق‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬تمثّلات‭ ‬هذه‭ ‬القراءة‭. ‬وحين‭ ‬يضعنا‭ ‬الناقد‭ ‬محسن‭ ‬الموسوي‭ ‬أمام‭ ‬مساحة‭ ‬مفتوحة‭ ‬وغامرة‭ ‬للاشتباك‭ ‬النقدي‭ ‬مع‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬العربية،‭ ‬فإنه‭ ‬يجرّنا‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬المباح‭ ‬والمضمر‭ ‬في‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬نسقيات‭ ‬هذه‭ ‬الروايات،‭ ‬والتي‭ ‬تثير‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الجدل‭ ‬والاختلاف،‭ ‬فالروايات‭ ‬الخمس،‭ ‬موضوع‭ ‬القراءة،‭ ‬كُتِبت،‭ ‬كرونولوجيا،‭ ‬في‭ ‬زمنٍ‭ ‬واحد‭ ‬تقريبا،‭ ‬لكنها‭ ‬تفترق‭ ‬عند‭ ‬عتبات‭ ‬الرؤى‭ ‬والمعالجات‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬الخبرات،‭ ‬وربما‭ ‬تلتقي‭ ‬في‭ ‬جرأة‭ ‬معالجتها‭ ‬لمحنة‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬هواجسه‭ ‬واغترابه‭ ‬القومي‭ ‬والإنساني،‭ ‬مثلما‭ ‬يعيش‭ ‬رهابات‭ ‬ما‭ ‬يواجهه‭ ‬جرّاء‭ ‬تحولات‭ ‬صادمة،‭ ‬واحتلالات‭ ‬معقدة،‭ ‬تمسّ‭ ‬الأرض‭ ‬والوجود‭ ‬والمعنى‭ ‬والهوية‭.‬

قراءات الموسوي تأخذ منحى القارئ «العمدة» كما يسميه ريفاتير، وتنطلق من وعي بات حاضرا وقريناً بأسئلة السرد، وعبر التعرّف على علائق هذا السرد بالتاريخ، وبالهوية، وبرمزية «بطل السرديات» العربي المخذول والضائع أمام ما يجري، إذ نجد في هذه الروايات تقابلات قلقة، وثنائيات مسكونة بهاجس الصراع والاغتراب، والتي يصطنع لها الناقد معالجات تزاوج بين تقانات النقد الثقافي، وتقانات «الرواية الواعية» كما سمّاها، والتي يقصد بها «الميتارواية» أو الميتاسرد.

فرواية «أولاد الغيتو: اسمي آدم» للروائي اللبناني إلياس خوري تشتغل على محنة هذا البطل واغترابه، فهو خارج التاريخ، وداخل الكتابة، وما بينهما يمارس الروائي لعبة الحكي، والتخيّل، ويضع لبطله قناعا يمارس من خلاله نوعا من الاعتراف الطهراني، وما يمكن تسميته بـ»اعتراف التعرية» حيث يقشّط تاريخ القضية، وتاريخ الأفكار، ورهابات المسكوت عنه، فالعتبة العنوانية تضلل القارئ، وتُعطي لـ»شخصية آدم» وظيفة الكشف عن مستويات غامرة استغرقتها الرواية، بدءاً من «مستوى الضحية، والهوية المقتولة إلى مستوى الصراع ما بين الأدب والتاريخ»، وبهذا يحاول الموسوي استكناه حمولة الرمز آدم، وكأنه «آدمنا العربي» الحامل لـ»صليبه»، لكنه التائه، والمخذول، والممزق، والصامت.

شفرة الصمت التي يحملها، هي شفرة التاريخ الذي يحاصره، مثلما هي شفرة الكتابة الخالية من الوثيقة، وشفرة الأعمى «مأمون» الذي يعرف، ولا يرى، وكأنه رمزٌ للعمى الثقافي والسياسي والوجودي، وحتى لمحو الوثيقة في شهادتنا العربية..

تأسيس الناقد الموسوي قراءته على اشتباك الرواية مع روايات أخرى ذات مرجعيات تاريخية وثقافية أضاعت علينا قراءة الخصيصة الرمزية للبطل الفلسطيني آدم، فلا أظنّه يشبه ضحايا غسان كنفاني وصمتهم، ولا أحد أبطال إميل حبيبي الساخرين من وجودهم، بل هو أنموذج عصابي للبطل الهابط للأرض (آدم) والمكتشف لخطاياها، خطيئة حياته ووجوده وتمزقه، وخطيئة هروبه بحثاً عن صوته، وتعرية لتاريخ الخذلان الذي يعيشه الفلسطيني، كما أنّ تقانة الميتاسرد التي وظّفها الروائي عبر مستويات العثور على دفاتر آدم وإحالاته، وعبر استعادة شخصية «وضّاح اليمن» من المثيولوجيا العربية، وعبر استحضار رواية «خربة خزعة» للروائي يزهار سميلنسكي هي ما بدت أكثر قصدية لإبراز فاعلية مشغله الميتاسردي، ولتكريس سردية التقابلات في الرواية، لكنها، أيضاً، لم تشكّل في سياق المعالجة النقدية أفقا لاقتراح قراءة مجاورة، تتجاوز لعبة الحكي واستيهاماته، باتجاه ما تبدى واضحاً في إدانة الخراب الوجودي، وإدانة صمت البطل/المثقف واستسلامه للمحو والانتزاع والتماهي، وكذلك إدانة السلطة أيضاً، بما فيها سلطة التاريخ، وسلطة الاحتلال وسلطة الذاكرة.

فالصمت عن تدوين مذبحة اللد، والصمت عن علاقاته مع «منال» و»داليا» يقابله رمزياً الصمت/قهر الذات الفلسطينية عبر انتزاع صوتها، وإجبارها على ممارسة التصويت بلغة أخرى، وعبر الاكتفاء بالتدوين الخائف لتاريخه الشخصي في دفاتره، وعبر وصيته بحرق هذه الدفاتر، وكأنه يحاول أن يسلط على أنموذج فلسطيني هجين (مسكوت عنه)، ويحتاج للقراءة الأنثربولوجية والسوسيوثقافية، ذلك الذي يلتذ بأقنعته، وبإيروسية صوته الداخلي المقموع وذاكرته المفجوعة، وصوت الرغبة المسحوقة، وصوت الإدانة الخائف..

وفي قراءة الموسوي لرواية «مصائر» لربعي المدهون يبدو اهتمامه واضحاً بالقيمة السوسيوثقافية للسرديات، وبفاعلية التقانات التي يتم توظيفها لإحداث ما يشبه المفارقة، أو الوعي بالكتابة، فالمدهون يضعنا أمام مصائر أبطاله، ومصائر وعيه وقضيته، وما يعتورهما من تحولات وتغايرات، إذ يتعرّض كل شيء للتعرية، بما فيه فكرة المقدس والمكان والهوية والذات، وهو بهذه المفارقة يتجاوز الكثير من بداهات النقدية العربية، تلك التي ظلت تنظر للقضية الفلسطينية بوصفها تاريخاً، وللكائن الفلسطيني بوصفه ضحيةً، وللمصير بوصفه قدراً، وكأنّ كل ما يجري بعيداً عن تلك التحولات والتغايرات ينعكس على وعي الأحداث، وعلى توصيف الوجود المدني، وعلى فكرة المكان، وفي التعاطي النقدي مع سلسلة من الرضات التي تُحدِثُ ما يشبه المحو، المحو الذي باتت تصنع أشكاله أساطير الإعلام والتواصل الاجتماعي والحروب والهجرات وغيرها..

لعل رواية «خان الشابندر» للروائي العراقي محمد حياوي هي الأكثر إثارةً، وأكثر استفزازاً للذاكرة، ولمفهوم «الكتابة الواعية»، فالروائي يصطنع زمناً متخيّلاً، ويجرّ من خلاله المكان الواقعي

ومن جانب آخر يجرّنا الموسوي معه إلى ذات الحديث الذي استغرفه في رواية «الغيتو»، وما يتعلّق بتقانات الميتاسرد، أو الكتابة الواعية، والتي تبدو لي الأقرب إلى تفكيك نمط «الحكي»، ونمط «البطل المركزي» والراوي العليم، وهي تغايرات باتت تفرض نفسها على معطيات الكتابة الروائية، وربما هي خيار مصطنع لتطهير الروائي من خطيئة المكوث في التاريخ، ووضعه أمام مخيال «الهوية السردية» للحكايات والأحداث، وحتى الوثائق، وهو ما يعني افتراض»مصائر» متخيّلة للشخصيات وللقضايا الكبرى، وتمثلّات متخيّلة لوجودها في الزمن والمكان. وأحسب أن رواية «مصائر» تصطنع عبر هذا التحقق في المخيال السردي، وعياً مجاوراً، له تبديات ما يستدعيه الروائي عبر تاريخية الفلسطيني في المكان والتفاصيل، وعبر توظيفه «الكونشترو الموسيقي» بحركاته الأربع، وهي تقابلات يقترحها الروائي كمستويات لعوالم الشخصيات، وللقراءة الطاردة للمؤلف كليّ العلم، باتجاه الوعي بوجود المؤلف المجاور، والمؤلف النسقي، الحامل لنص، أو نصوص لها علامات لسانية أو غير لسانية..

النص الذي يكتبه الآخر

مما يثير في قراءة الموسوي وضع السرد تحت هاجس القارئ الواعي، وفي سياق لعبة تأليفية يتواطؤ فيها المؤلف المنزوي، مع القرين الذي يكتب النص، أو يترك أوراقه للمؤلف، وهو ما بدا واضحاً في دفاتر آدم، وفي كونشترو المدهون، وفي أوراق «فهرس» للروائي العراقي سنان أنطون، إذ يجد في أوراق «البدايات» التي أرسلها ودود إلى صديقه نمير بغدادي عن حياته المضطربة في المدينة، «نصه الواعي» الذي يستعيد عبره روح المدينة الضائعة، فهو يرصد خرابها وجمالها، مثلما يهجس من خلالها كل التحولات التي أصابتها جرّاء الاحتلال الأميركي..

يقترح سنان أنطون للمخطوطة سياقاً قرائياً، وبالشكل الذي يحرره من المباشرة، ليضع مؤلفه الآخر أمام لحظة وعي فارقة، يدوّن عبره نص الـ»فهرس» مراحل انهيار المدينة التي يعشقها، فبقدر ما يرصد حروبها وانفجاراتها، فإنه يرصد التحولات السياسية والنفسية العاصفة، وتصدّع القيم الأخلاقية فيها، وشيوع مظاهر الفساد وغياب الحميمية في أماكنها.. وأحسب أن اتهام الناقد الموسوي لرواية سنان أنطون بـ»التبعثر والترقيع» هو جزء من مستوى قرائي، وحتى اقتراحه على الناشر الإشارة إلى أنها رواية «غريبة أو مغايرة، أو ميتارواية» يدخل في هذا السياق القرائي، رغم أنّ تقانة الميتاسرد واضحة فيها، عبر تنافذ الحكي بين صاحب المخطوطة وبين صديقه أو قناعه نمير بغدادي الذي هو، أيضاً، ضحية استلاب سياسي ونفسي..

وخيار الناقد الموسوي لرواية «عطارد» للروائي المصري محمد ربيع يؤصّل السياق النقدي الذي اقترح قراءته، بوصف هذه الرواية تكرّر متوالية وعي الروائي لما يكتبه، ولمنح «النص المُتخّيل» أو «نص الميتا» أفق تسليطَ الضوء على ما هو مُضمر في عقل الفرد، أو في عقل المؤسسة، وكأنّ هناك عينَ كاميرا تراقب، أو ذاكرة تحفظ الأثر، وهو ما بدا واضحاً في هذه الرواية، حيث تشتبك ذاكرة القمع الوطني بميثولوجيا الأضحيات في الأيام المقدسة، وحيث تحولها إلى قمع عمومي تساكنه وتؤنسنه الذاكرة اللاوعية للقمع في التاريخ أو في الدين أو في الأسطورة، إذ تقابلها حروب الدولة، وصناعة المُستبِد والقاتل/القناص، والمرتزق، حيث رهاب الاحتلال، وحيث وهم الدولة/المؤسسة/التاريخ، وحيث وهم المقدّس، فبطل الرواية عقيد الشرطة «أحمد عطارد» المسكون بـ»فكرة» مقاومة الغزاة، والشغوف بوهم القنص، لم يجدْ كثير الاهتمام بتحليل شخصيته بوصفه أنموذجاً للتحوّل، رغم أنه صالحٌ لأنْ يكون مجالاً عيادياً للتعرّف على مظاهر «التمويت» الحادثة في الدولة بعد احتلالها، وليبدأ معه عصر»عطارد» الكوكب السريع والقافز، والذي قد يشبه رجال المقاومة تماماً في ظهوره فجراً وعند الغسق..

يمكن لهذه الرواية أنْ تكون عنواناً لمقاربة موضوعة الاحتلال، ورغم اختيار الروائي لزمن فنطازي عام 2025، فإنه يؤشر بهذه الدلالة قصدية المؤلف في التحرر من رمزية الزمن الواقعي، وأحداثه المعروفة بعد الانتفاضة المصرية عام 2011، تلك التي أحدثت هزّةً كينونيةً في الذات/شخصية عطارد، وفي المجتمع، عبر التغاير الديموغرافي في مدنه، وعبر مظاهر خوائها وفقدانها قيمها من خلال شفرات الإسقاط، والخيانة، والارتزاق، والانفتاح على الجحيم الذي يصنعه المحتلون دائماً..

ولعل رواية «خان الشابندر» للروائي العراقي محمد حياوي هي الأكثر إثارةً، وأكثر استفزازاً للذاكرة، ولمفهوم «الكتابة الواعية»، فالروائي يصطنع زمناً متخيّلاً، ويجرّ من خلاله المكان الواقعي «خان الشابندر» في إحدى مناطق الحيدرخانة ببغداد إلى المكان الفانتازي، المكان الذي تتفجّر فيه أحداث فانتازية، وشخصيات يختلط فيها الواقعي والسردي، إذ يمارس الروائي لعبة الانتقال من الواقعي إلى الفانتازي عبر لعبة سردية ذكية، وكأنه يحاول من خلالها إعادة قراءة الذات العراقية التي استلبتها الحروب والاحتلال والعنف والميليشيات وجودها، والكشف عن سرائر حيواتها الغامرة باللذة والمعنى والخذلان أحيانا..

الرواية ترصد ما جرى من خراب عبر تلك السردية، تضع ضحايا الحروب والاستبداد بموازاة ضحايا الاحتلال، وهي لعبة لم يسع الموسوي لإبرازها في مشغله الفني، فالشهيد حاكم محمد حسين، يقابل كل الضحايا التي استحضرها الروائي في الرواية، وحتى قصة الحب المتخيلة بين البطل/السارد والبغيّ «هند» لا تعدو إلّا أن تكون تكريساً فنياً لتلك اللعبة، والتي قصدها الروائي للكشف عن ذاكرة المكان، عن يومياته، لحظاته البهيجة، فحولته التي اكتشفها فيه، لكنها بالمقابل كانت محاولة في التطهير، عبر الاعتراف، وعبر تعرية المسكوت عنه، والمُضمر في حيوات العديد من شخصياته، من خلال لحظات وعيهم المخذول، وصور مصائرهم المقهورة..

خيارات الناقد الموسوي لهذه الروايات الخمس تعكس وعيه الجاد بمراقبة التحولات الفنية في الرواية العربية الجديدة، لكنه لم يشأ أن يضعنا بشكل أعمق أمام التحولات الثيمية التي بات الروائي العربي في صُلب حرائقها ومعطياتها، إذ هي معطيات مفارقَة، مشحونة بـ»وعي شقي» وبقلق ملتبس، وبأسئلة ظل الكثير منها عالقاً، وبعيداً عن هاجس الحرية والجرأة في الإبانة عن تلك التحولات، وعن وقائع الاحتلالات، وعن هموم ما بعد «الربيع العربي»، وعن صعود الأصوليات الجهادية التي باتت تسعى إلى إعادة إنتاج ذاكرة أخرى للاستبداد، استبداد في المكان وفي السلطة وفي النظر إلى التاريخ، فأغلب هذه الروايات كتبها روائيون خارج بلدانهم، وهو ما يعني أنهم استعانوا بالذاكرة، وبهامش الحرية غير المُجهضة في الكتابة عن قضايا تخص عذابات الكائن العربي، وتنحاز إلى قضايا وأحلامه.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.