الشعب والدولة والتباساتهما

الجمعة 2015/05/01

ليس من السهل أن نناقش مثقفا في قيمة المفكر السوري جادالكريم الجباعي ونحن لم نقرأ له سوى متفرقات، تعبر عن جانب من فكره لا محالة، ولكن ليست فكره كله، ولا أن نجادل آراءه من خلال حديث أدلى به لمجلة “الجديد” في عددها الماضي، قد يكون كتم فيه أكثر مما باح، لنصدر في شأنها هذا الحكم أو ذاك. ومن ثَمّة، ليس أمامنا إلا أن نحاول، ما وسعتنا الحيلة، مناقشة بعض المسائل التي نختلف معه فيها دون أن نزعم امتلاك الحقيقة.

في جدال الثورة السورية التي اندلعت في 15 نيسان 2011، كانت ثورة سلمية ضد منظومة الفساد والاستبداد، وأن النظام أفلح في تحويلها إلى صراع طائفي ثم إلى حرب أهلية توسعت رقعتها، فصارت كالهدرة لها أكثر من رأس، على غرار ما شهدته أسبانيا في ثلاثينات القرن الماضي. وصارت “الأحزاب الموالية تدافع عن سلطة قائمة ومكاسب وامتيازات فعلية، والأحزاب المعارضة تناضل من أجل سلطة ممكنة وما يتبعها من مكاسب وامتيازات. وكل واحد من هذه الأحزاب ملة ناجية قائمة بذاتها، له مشروعه الخاص لوطن لا يتسع لغيره، وشعب هو شعبه الخاص”.

والجباعي بما له من خبرة في العمل السياسي، وتجربة في تحليل تجليات الواقع السوري في ماضيه ومستجداته، يردّ ذلك إلى عدة عوامل: أولها أن أكثرية الشعب ظلت طوال عقود مهمشة ومستبعدة من مجالي السياسة والثقافة. وثانيها هو انفصال النخبة عن الشعب، وعجزها عن التوافق على رؤية وطنية مشتركة. وثالثها أن الاستقطاب الحاد بين السلطة والمعارضة أحدث تصدّعا عميقا في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية يحتاج إلى جهود كبيرة ووقت طويل لرأبه، ما يجعل التوافق على المستقبل صعبا في ظل تمادي العنف والإرهاب وتقطيع أوصال البلاد وهيمنة الأيديولوجيات الإثنية والدينية والمذهبية على معظم النفوس والعقول. ورابعها أن الثقافة القومية، التي فرضت على الشعب وأريد لها أن تتحول إلى “دين شعبي”، لم تحل دون إعادة إنتاج “الثقافة الشعبية” التقليدية. وآخرها أن المثقفين والمؤسسات الثقافية لم يبذلوا أي جهد لردم الهوة بين الثقافة الشعبية الشفوية والثقافة “الرفيعة” المكتوبة، على افتراض أن ثمة ثقافة رفيعة ذات شأن، على حدّ قوله.

الثقافة الشعبية ليست هامشا

ليس في النقاط الثلاث الأولى آنفة الذكر ما يثير الجدل، لأنها توصيف صائب لواقع مرّ تملأ تفاصيله صفحات الجرائد ومنابر الفضائيات منذ أربعة أعوام. أما النقطتان الأخيرتان ففيهما نظر. ذلك أن الجباعي – إن لم نُسئ الفهم – يعيب على ثقافة الدولة القُطرية إعادة إنتاج الثقافة الشعبية التقليدية، ويعيب في الوقت نفسه على المثقفين ومؤسسات الشأن الثقافي عجزهم عن ردم الهوة بين ثقافة الشعب الشفوية وثقافة الصفوة المكتوبة.

فأما عن ردم الهوة، فلا نحسب أنه من مهمة المثقفين وحدهم، حتى وإن خالطوا العمال والفلاحين والمهمّشين وخاطبوهم بما يفهمون، على افتراض أن من النخبة من هو قادر على ذلك. يقول سارتر “إن فائزا بجائزة نوبل في الفيزياء لا يمكن اعتباره مثقفا إلا إذا شارك في الحياة العامة باسم علمه، رغم أن لقب ‘جائزة نوبل’ لا يمنح أيّ كفاءة خاصة في السياسة وفي العمل الثقافي”.
والحق أن المواجهة بين “الثقافة العالمة” و”الثقافة الشعبية” ليست جديدة، وقد رأينا موقف الصفويين كالتوحيدي وابن النديم من حكايات ألف ليلة وليلة. وليس جديدا أيضا تواشج هذه في تلك
وإنما يعهد أمر تقليص الهوة – لأن ردمها مستعص حتى في البلدان المتقدمة – إلى مؤسسات التربية والتعليم في المقام الأول، فالأميّ ونصف المتعلم لن يكون بوسعهما فهم المحاضرات وقراءة الأدب والشعر والاستماع إلى السيمفونيات وتذوق اللوحات الفنية، مهما تبسّط أهل الاختصاص في شرحها وطرحها، هذا إذا افترضنا أن المعنييْن يقبلان على مثل تلك الفعاليات، لأن مشاغلهما وهمومهما أبعد ما تكون عن ذلك.
وأما حديثه عن الثقافة الشعبية فقد ورد في صيغة من يستهجن عيبا أو عاهة، فهو فيما بدا لنا متألم من إعادة إنتاج تلك الثقافة، إلا إذا كان القصد من كلامه عكاظيات تقام على شرف “القائد الرمز″ وبطانته وحاشيته كما كان الشأن في تونس زمن بورقيبة. لأن الثقافة الشعبية الحق جزء لا يتجزأ من هوية هذا الشعب أو ذاك ومكون هام من مكونات تاريخه، وملمح من ملامح ثقافاته الأخرى، ووجه من أوجه التراث الإنساني اللامادي الذي أوصت منظمة اليونسكو بصيانته والمحافظة عليه. وهي التي أقام عليها بعض الكتاب العالميين مجدهم من شارل بيرو وجون نيوبري إلى الأخوين غريم مرورا بإيفان كريلوف، واستفاد منها كتاب كبار مثل وليم فوكنر وجيمس جويس.
فالثقافة الشفوية لا تقل قيمة عن الثقافة المكتوبة، والناس يتناقلونها خلفا عن سلف كما يتوارثون أشياء عزيزة لا تقدر بمال، ويجددونها جيلا بعد جيل بإضافة عناصر من عصرهم وبيئتهم، فتكتسي طابعا لا غنى عنه لدى علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع لمعرفة أحوال الأمم وعاداتها وتقاليدها. حتى أن الكاتب الكونغولي تشيكايا أوتامسي صرح مرة أن كل عجوز يموت هو بمثابة مكتبة تحترق.

والحق أن المواجهة بين “الثقافة العالمة” و”الثقافة الشعبية” ليست جديدة، وقد رأينا موقف الصفويين كالتوحيدي وابن النديم من حكايات ألف ليلة وليلة. وليس جديدا أيضا تواشج هذه في تلك، فمسرح شكسبير لم يكن في بدايته نخبويا، والأفلام البوليسية كانت جنسا شعبيا قبل أن تحولها السينما إلى أفلام هواة مستنيرين. بل إن الثقافة الشعبية في الغرب صارت، بفضل الوسائط الحديثة، أكثر انتشارا، رغم موقف النخبة منها. وهو موقف يشبه ما صوره أمبرتو إيكو في روايته الشهيرة “اسم الوردة”، حيث كانت كل قراءة لغير الكتاب المقدس والكتب الدينية في العصر الوسيط قراءة سيئة ومشينة.

سكوت المثقف العربي عن نقد السلطة

والحديث عن الثقافة يقودنا حتما إلى المثقف، وإذا كان الفرنسيون المحدثون قد تواضعوا على ثلاثة أصناف من المثقفين هم المثقف الثوري (أو المثقف الناقد منذ 1980) والمثقف المتخصص ومثقف السلطة، فإن من تسيّد الساحة الثقافية في بلاد العرب كافة هو مثقف السلطة، ذلك الذي طوّع قلمه وفكره لسياسي أميّ مستبد فاسد فاسق وأتبع نفسه له، أو ذلك الذي انخرط طوعا لخدمة السلطة، سواء كانت السلطة هي السلطة القائمة بالفعل أم السلطة الممكنة. “بهذا المعنى، يقول الجباعي، الأكثرية العظمى من المثقفات والمثقفين عضويات وعضويون، ويضيف في سخرية مرة، بالمعنى الغرامشي، فبعضهن مخبرات وبعضهم مخبرون، وهذا شكل مبتكر من النضال”.

وفي رأيه أن دور النخبة السورية المثقفة لن يتغير ما لم تستقل الثقافة عن السياسة، فيستعيد المثقف موقعه كأستاذ للسياسي، من أجل تحرير السياسة من الجهل، ووضع حد للأيديولوجيا التي التهمت الثقافة، وتعرية المثقف الذي يقدم خدماته لمن هو أدنى منه معرفيا وأخلاقيا. ولكن دور التعرية هذا هو من مشمولات النقد، فكيف السبيل والناقد منبوذ والفكر النقدي مهمش و”التابوهات” الدينية والسياسية دونها المصادرة والمقاضاة، ونقدها يندرج في باب المحرمات، ويوصف مقترفها بالانحراف والتحريف والهرطقة والزندقة والكفر؟ ولا يقتصر الأمر على نقد الاستبداد، بل يصح أيضا على “نقد الثورة التي رفعت إلى مصاف المقدسات، والثوريين الذين رفعوا إلى مصاف القديسين”. وهذا معروف في كل الثورات تقريبا.
تقول حنا أرندت “على الصعيد النظري، كان تأليه الثورة الفرنسية نتيجة حتمية لجعل القانون والسلطة نابعين من المصدر ذاته. فادعاء الملكية المطلقة أنها تستند إلى ‘قانون إلهي’ جعل السلطة العلمانية تتكيف على صورة إله قادر ومشرّع للكون في الآن نفسه، أي على صورة إله إرادته هي القانون”. وفي رأيها أن الشعب حل محل الإله.

ولعل قصور النقد عن أداء دوره كما يقول الجباعي يعزى إلى تبعية الثقافة للسياسة على مدى أكثر من نصف قرن، وتبعية المثقف للسياسي. والحالة عامة في سائر الأقطار العربية حيث ينتقد الكاتب أو المفكر الاستبداد والتسلط والفساد والانحطاط الأخلاقي في المطلق، دون أن يجرؤ على فضح رموز الاستبداد في بلاده. وبعيدا عن التصنيفات الماركسية والليبرالية، يعرف الجباعي المثقف بأنه ذلك الذي ينتج أفكارا وتصورات جديدة ومعاني وقيما جديدة، وينقد ما هو سائد ومحفوظ ورثّ ومتخلف، ويكون فاعلا في الحقل الثقافي. (والحق أن الجباعي لا ينسى المرأة في كل حال ومثال، بل يقدّمها دائما على الرجل، حتى عند الحديث عن المثقفات المخبرات). والمهمة في نظرنا ليست باليسيرة. في كتابه “المثقف في المدينة” يتساءل جيرار نوارييل عن المهمة السياسية للذين يمارسون مهنة “عالم” (بمعنى من يملك المعرفة) وعن نوع الحجج التي يقدمونها لتبرير تدخلاتهم السياسية، وكيف يتصرفون لمد الجسور بين عالم المعرفة والجدل العام.

الكوسمولوجيا لا تفسر وحدها كل شيء

ويرى الأستاذ الجباعي أن تفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية التي أنتجتها الثورة لا يكتمل من دون الكشف عن خلفيتها الكوسمولوجية، الأسطورية، والدينية ذات البعد الأسطوري، ولا سيما أسطورة الخلق التوراتية وفكرة الخليقة ومركزية الذات الفردية، فهي التي تحدد في نظره إمكانية الاعتراف المتبادل بين الأفراد والجماعات بالتساوي في الكرامة الإنسانية والحقوق المدنية والسياسية، والتشارك الحر في الشؤون العامة في حياة الدولة، وتحدد تبعا لذلك إمكانية أن تكون الدولة فضاء عاما ووطنا سياسيا لجميع مواطناتها ومواطنيها بالتساوي، بلا استثناء أو تمييز.

والأستاذ الجباعي ربما يستند في تحليله إلى ألفريد نورث وايتهيد (1861-1947) الذي جعل الكوسمولوجيا مرادفا للميتافيزيقا، وقد حاول هذا العالم البريطاني المتخصص في الفيزياء والرياضيات تشكيل منظومة أفكار عامة تكون ضرورية ومنطقية ومتناسقة يمكن بموجبها تأويل كافة عناصر تجاربنا، كعنصر خاص في نظام عام، على اعتبار أن ليس بوسع فكرة معزولة أن تفسر كل شيء.

ولكن قد يصح ذلك على الحالة السورية وبعض أقطار الربيع العربي ذات التنوع الإثني والمذهبي والديني، أما في تونس حيث السواد الأعظم عرب مسلمون سنيون مالكيون أشعريون، ولو بالوراثة، فلم يكن الشباب الثائر خاضعا لسرديات كبرى ولا لنصوص مقدسة، بل كان مدفوعا، الآن وهنا، برغبة جامحة في حياة إنسانية كريمة، ومواطَنة ينكرها عليه نظام جائر. ولم يكن يحمل في ثورته على الاستبداد لا فكرا أيديولوجيا ولا مرجعية دينية لإحلال نظام بدل نظام.
أما السلفية التكفيرية والجهادية وسائر الحركات الإسلامية المتطرفة، التي سعت إلى تقسيم الشعب التونسي إلى علمانيين “كفرة ملحدين”، وتقاة “مؤمنين” يحملون راية الإسلام ويبشرون بالخلافة، فلم تظهر إلا بعد سقوط بن علي وعودة إخوان النهضة من المنافي أو تسريحهم من السجون والمعتقلات، كل تلك التيارات كانت صدى لفكر غريب لم تعهده الديار التونسية منذ تأسيس جامع عقبة بن نافع بالقيروان في منتصف القرن الأول الهجري (باستثناء الحقبة الفاطمية الشيعية الطارئة في القرن الرابع الهجري)، وهي التي استوردت لنا صراعا غير مألوف. صحيح أن الرؤية الكوسمولوجية تسكن لا وعي الأفراد وقد تظهر وقت النزاع، ولكن لا يمكن تفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية، من هذه الزاوية وحدها.

الدولة ومصطلحاتها الملتبسة

وفي سياق آخر يرجع الأستاذ الجباعي سبب استشراء الفساد وتكريس الاستبداد إلى هدر مبدأ العمومية، ولا سيما عمومية الدولة، التي غدت في سوريا “دولة البعث” وحتى “سوريا الأسد” وكأن البلاد ملكية خاصة. وهو ما يفسر في نظره سيطرة السلطة العسكرية-الأمنية سيطرة مطلقة على المجتمع وعلى الحيوات الخاصة للأفراد والجماعات، ومن ثمّة بات هدر العمومية هدرا للخصوصية، لأن مفهوم الوطنية المرادف للعمومية غائب عن الوعي والثقافة.

ولعل قصور النقد عن أداء دوره كما يقول الجباعي يعزى إلى تبعية الثقافة للسياسة على مدى أكثر من نصف قرن، وتبعية المثقف للسياسي
وفي رأيه أن الخروج من المأزق الحالي، بين قوى متعادية ومتنافية يحاول كل طرف فيها إلغاء الآخر، يمكن أن يتم عبر “صيغة تجمع الرؤى المختلفة، يعرفها الجميع، ولكنهم لا يريدونها، أو ليسوا جاهزين لها بعد”. هذه الصيغة يفصح عنها في جوابه عن سؤال تالٍ بكونها توافقا على دولة وطنية فيدرالية ديمقراطية، يدبّر بواسطتها سكان سوريا الجغرافية -السياسية مصيرهم، ويشكلون وجودهم الاجتماعي ونظام حياتهم، بصفتهم سوريين، لا بأيّ صفة أخرى، دون إلغاء العروبة والإسلام أو الكرودة وغيرها. ويلح على صفة الدولة الوطنية لأن “تعبير الدولة التعددية مراوغ، وتعبير الدولة المدنية ينم عن جهل العلمانيين ومكر الإسلاميين” كما يقول، دون أن يفصح عن مكمن المراوغة والجهل والمكر لأسباب سنبينها أدناه.

فأما الدولة التعددية فلم نعثر لها في ما توافر لنا من مقالاته عن نقد يخصها، وهي على أيّ حال لا تصلح أن تكون نموذجا يحتذى، فما هي سوى منظومة حكم تعددي تنافسي، بمعنى أنها تخضع لتسيير مجموعة من النخب تملك الموارد المالية والكفاءة والهيبة، تشترك في اتخاذ قرارات تخدم مصالح جميع الأطراف، الحاكمة بالدرجة الأولى. وقد نظر لها الأميركي روبرت ألان دال (1915-2014) بعد دراسة البنى الهيكلية للحكم في مدينة نيو هافن بولاية كونيتيكت دوّنها في كتاب له بعنوان “من يحكم؟”.

وأما الدولة المدنية فاعتراضه عليها متأتّ من كون المفهوم من وضع الإخوان المسلمين. ويعتبره تلفيقا بين الشيء ونقيضه، بدأه الإمام محمد عبده حينما أضفى صفة “الشرعية الإسلامية” على الدولة الدستورية الحديثة، وسعى إلى تأصيله من بعده حسن البنا ورشيد رضا وخاصة سيد قطب، حيث زعموا أن “الدولة الإسلامية” لم تكن دولة دينية، بل كانت وستظل “دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية”، فأسقطوا مفهوم الدولة الحديث على نظام حكم إسلامي نواته ونموذجه ما يسمونها “دولة المدينة” (انظر مقاله “الدولة المدنية” تلفيق فكري وتلبيس سياسي – موقع الأوان بتاريخ 23 يوليو 2012).

صحيح أن مصطلح “الدولة المدنية” الذي يوضع عادة في مقابل “الدولة الدينية” لا وجود له في الأدبيات الغربية، حيث يشار إلى الدولة التي تفصل الدين عن السياسة بمصطلح “séculier Etat” بمعنى دولة لائكية عَلمانية، غير أن التسمية وحدها لا تفرز نظاما يكون وفيا لها بالضرورة، فأغلب الدول العربية المستبدة ترفع شعار الديمقراطية، وأكثرها فسادا تدعي الاشتراكية. بل إن بعض المصطلحات مضلل من أساسه، فدولة القانون – التي كان يتشدق بها نظام بن علي – هي نظريا دولة دستورية تكون فيها ممارسة السلطة خاضعة للقانون، ولكنها ليست ديمقراطية بالضرورة، ففرنسا مثلا عندما أرادت فرض دولة القانون، انتقلت من النظام القديم إلى الإمبراطورية، دون أن تكون استبدادية، والحق يقال. لأن الشرط فيها استقامة خُلقية تقوم على الإيثيقا والقانون والعقلانية والقانون الطبيعي والدين أو العدل والإنصاف. مع احترام تراتبية المعايير، وفصل السلط، والقوانين الأساسية. ولكن هات من يحترم ذلك في الأنظمة العربية الشمولية!

كما أن الشرط الديمقراطي الذي يقضي – حسب الطرح الروسوي – بأنه لا يحق إلا للإرادة العامة وحدها أن تُفرض على الأفراد، ولا يحق إلا لممثلي الأمة وحدهم أن يعبّروا عنها، لا يحقق الديمقراطية، لأن تلك الإرادة في جوهرها لا تختلف عن الإرادة الإلهية التي لم تكن تحتاج في سن القانون سوى إلى الإفصاح عن إرادتها، فالقانون في هذه الحالة يصدر عن الحاكم، ومن ثمة فهو لا يعدو أن يكون غير أمر سلطاني. ولنا أن نتصور ما يمكن أن يخلق هذا النوع من القانون في الأنظمة الشمولية. كما تقول أرندت.

ومهما اختلف الفلاسفة والمفكرون في تفسير مصطلحها، فالدولة، كما بيّن جون لوك، هي مؤسسة تضم مؤسسات تتفاعل فيما بينها، وتتسم كل منها بثقافة مميزة. فهي بهذا المعنى ليست كلا واحدا ولا موحدا، بل فضاء تتطور داخله وتتعايش ثقافات ومنطقيات مؤسساتية متباينة أحيانا. قد تنهار السلطة السياسية الحاكمة (أي النظام) وتتفكك أو تغيب عن سدة الحكم زمنا قد يطول أو يقصر، ولكن المؤسسات تستمر. رأينا ذلك في بلجيكا في عهد قريب، حين فشل السياسيون في تشكيل حكومة تحظى بموافقة البرلمان، دون أن تتوقف أجهزة الدولة ومؤسساتها. كذلك الشأن خلال الثورة الفرنسية، فقد استمرت مؤسسات الدولة التي تأسست في عهد ريشليو، خلال الثورة وبعدها، وحتى إبان الحربين الكونيتين.

منظمات المجتمع المدني وعلاقتها بالسلطة

ولا سبيل لتحقيق الديمقراطية إلا بوجود مجتمع مدني، ينشط عن طريق منظمات يعرّفها الأستاذ الجباعي – على صعيدها السوري – بكونها “منظمات وظيفية تتشكل بدواعي الحاجة، بمبادرات مدنية ذاتية، لتقوم بالوظائف الاجتماعية التي لا تقوم بها الدولة أو تقصر عن القيام بها، بل هي معنية في المستقبل بانتزاع بعض وظائف الدولة، لكي تحول دون تجاوزات السلطة على حريات الأفراد وحقوقهم المدنية والسياسية، وتكون قوة ضغط ورقابة على الحكومات”. ولكنه يحملها فوق طاقتها حين يرى فيها القوة الوحيدة التي يمكن أن يواجه بها الشعب السوري إرهاب السلطة وإرهاب الجماعات الجهادية. هذا على افتراض توحدها على كلمة سواء، وعدم ارتباطها بهذا الطرف أو ذاك.

وينفي الأستاذ الجباعي وجود “خطاب شعبي” في سوريا الآن يتوق إلى عودة الحياة إلى مجراها الطبيعي، وإن وجد فهو ملغوم ومطبوخ في مطبخ السلطة، لأن فئات الشعب المختلفة، في رأيه، ليست خارج علاقات القوة وصراع القوى

المعروف أن الدولة الحديثة منفصلة ومرتبطة في الوقت نفسه بالمجتمع المدني، فهابرماس مثلا يرى أن المجتمع المدني يشكل نطاقا عاما هو محل التزامات غير مؤسساتية، مستقلّة عن الدولة وفي تفاعل معها في الآن ذاته. أما غرامشي فقد تساءل عن الفرق بين الدولة والمجتمع المدني، مؤكدا أن الأولى منخرطة في الثاني بعدة أوجه. كذلك ألتوسير الذي أكد أن المنظمات المدنية كالكنيسة (كذا) والمدرسة وحتى النقابات هي جزء لا يتجزأ من “الجهاز الأيديولوجي للدولة”، نظرا للدور الذي تقوم به التنظيمات الاجتماعية في السياسة العامة، وارتباطها ببيروقراطية الدولة. بورديو أيضا يسوي بين المجتمع المدني وبين السوق وهيمنة المال وخضوعه للمصالح الفردية.

بل إن بعض المتخصصين في العلوم السياسية يعجزون عن تحديد انتمائها. ومنهم من يفضل الحديث عن شبكات سياسية وحاكمية لا مركزية في المجتمعات الحديثة أكثر من كونها بيروقراطيات دولة أو رقابة مباشرة من الدولة. ولعل ذلك ما جعل الأستاذ الجباعي يلحّ على استقلالها وعمومية وظائفها وقيمها الأخلاقية، سواء أكانت هذه الوظائف محلية أم وطنية، حتى لا تكون شبيهة بـالـ”منظمات الشعبية” التي وقع تشكيلها في السابق بمراسيم فوقية لجعلها أدوات لفرض الهيمنة والاستبداد.
الشعب والقوى المتصارعة

وينفي الأستاذ الجباعي وجود “خطاب شعبي” في سوريا الآن يتوق إلى عودة الحياة إلى مجراها الطبيعي، وإن وجد فهو ملغوم ومطبوخ في مطبخ السلطة، لأن فئات الشعب المختلفة، في رأيه، ليست خارج علاقات القوة وصراع القوى، وإلا فإن صراع القوى يجري في فراغ. ويتساءل من هو الشعب، هذا الذي يتحدث النظام والمعارضة باسمه، وكلاهما يزعم تمثيله. “أليس الشعب بنية علائقية بين أفراد حرائر وأحرار ومنظمات ومؤسسات، أم هو مجرد معطى إحصائي؟”.

المعطى الإحصائي قد يكون مطابقا للواقع زمن الركود والاستقرار، أما أثناء النزاع فيغلب عليه التعميم والتضخيم – أو التقليل بحسب المتكلم – فقد جرت العادة أن نحشر الشعب برمته في كل حدث وطني عام، كالزعم بخروج التونسيين كافة لطرد الطاغية، والحال أن العاقل يدرك بالفطرة أن ثمة رضّعا ومرضى وعجائز ومعوقين بالآلاف يعجزون عن الحركة، ومئات ألوف أخرى في الأرياف والبوادي والمناطق الجبلية الوعرة ممن يجدون صعوبة في التنقل لقضاء شؤونهم، فما البال بالمشاركة في المظاهرات، فضلا عمن اعتادوا لزوم الحياد ولو زلزلت الأرض زلزالها، يرددون في غير اكتراث قولة جحا : “أخطى راسي واضرب”. ومن ثَمّة فلا أحد يستطيع اليوم أن يكون واثقا من عدد المناصرين للنظام السوري والمعارضين له، والتحالفات والانفصالات متواصلة، كالحرب، على قدم وساق.

ثم إن تعريف الشعب ببنية علائقية بين أحرار وحرائر ومنظمات ومؤسسات لا يفي بالغرض، من دون رقعة جغرافية تجمع سائر مكوناته. فالشعب هو “الديموس″ بعبارة الإغريق، وقد يعني المواطنين والحاكم أيضا، من منظور روسو، ولكن قد يعني أيضا طائفة من البشر يوحدها تاريخ وثقافة بما تنطوي عليه من لغة ودين وعادات وتقاليد وحضارة.. وقد يعني كذلك الغوغاء، أولئك الذين تهملهم كتب التاريخ، ولا تسمع أصواتهم، ولا يلتفت إليهم إلا عند الحاجة، كالتطوع في الخدمة العسكرية أو التبرع بالدم أو الاقتراع أو التجمهر في الطريق العام لتحية موكب “القائد الرمز″.

والملاحظ أن ثمة اليوم تعريفين للشعب: تعريف إثني ثقافي ماضوي، ويأتي غالبا في سياق بناء استعادي يرتكز على أصول وتاريخ فيه من الأسطرة والفبركة نصيب لا يستهان به. وتعريف سياسي يتجه إلى المستقبل، في سياق بناء مشروع قد ينجح (الشعب الفرنسي مثلا) وقد يفشل (الشعب اليوغسلافي). وكلاهما مصطنع في وجه من الوجوه، ولكن قد يكتب له النجاح إذا آمن به المعنيون، واعتبروه حقيقة ممكنة.

الأصولية والاعتدال

النقطة الإشكالية الأخيرة التي يطرحها الأستاذ الجباعي تخص القراءة الأصولية والقراءة المعتدلة للنصوص المؤسسة، وفي رأيه أن الأصولية قاسم مشترك بين القراءتين. صحيح أن ثمة راديكالية عَلمانية في مقابل الراديكالية الأصولية، ولكن ذلك لم يحل دون وجود محاولات تنويرية معتدلة، بعضها من داخل النص كما فعل نصر حامد أبو زيد ويوسف الصديق وعبدالمجيد الشرفي، وبعضها الآخر من خارجه على غرار ما قام به عبدالوهاب المؤدب وعبدالنور بيدار.

مثل هؤلاء هم المعتدلون، أما الأزهر، وإن يذكر عادة في الشرق والغرب كرمز للاعتدال، فإنما من باب النسبية، مقارنة بالمواقف الأكثر تطرفا، لأن مواقف الأزهر لا تخلو هي أيضا من تطرف، وقد رأينا ذلك في تشنيعه بنصر حامد أبو زيد، ثم تأكدنا منه في الآونة الأخيرة من خلال أمثلة ثلاثة: أولا عندما رفض الأزهر تكفير جرائم داعش. ثانيا عندما استند الإمام الأكبر إلى آيات القتل والصلب والتقطيع للثأر من قتلة الطيار الأردني، والثالث، وهو الأخطر، عندما وقع الكشف عن نوع الكتب التي تُدرَّس لطلبته مثل كتاب “الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع″ لأبي إسحاق الحويني الذي ورد فيه “أن للمضطر أكل آدمي ميت إذا لم يجد ميتة غيره.
أما إذا كان الميت مسلمًا والمضطر كافرًا فإنه لا يجوز الأكل منه لشرف الإسلام، وحيث جوزنا أكل ميتة الآدمي لا يجوز طبخها، ولا شيّها، لما في ذلك من هتك حرمته، ويتخير في غيره بين أكله نيئًا وغيره”. أو كتاب “الشرح الصغير” الذي ورد فيه “أن للمسلم قتل الزاني المحصن، والمحارب، وتارك الصـلاة، ومن له عليه قصاص، وإن لم يأذن الإمام في القتل، لأن قتلهم مستحق، ثم بعد ذلك يأكل منه ما يشاء”.
بقي أن نقول إننا نكبر في الأستاذ الجباعي شجاعته، فقد أعلن ما أعلن عن النظام وأزلامه وهو في دمشق، ونحيّي فيه تواضعه حين صرّح أن “الثورة ثورة عليّ وعلى أبناء جيلي، وليس من حقي وحق أمثالي أن يركبوا موجها

يوتوبيا زوال الحروب نهائيا

أخيرا، إذا كنا نتفق على ما ذهب إليه الأستاذ الجباعي في قوله إن الربيع العربي افتتح مرحلة جديدة طويلة المدى، لا تنتهي حتى في حال انتصار الثورة المضادة، بوصف الثورة في شكلها السلمي حمالة لقيم معرفية وثقافية وأخلاقية لن يخبو وهجها بتقادم الزمن، فإننا لا نشاطره نعتَها بأنها بشارة بإمكانية وضع حد نهائي للحرب، في سائر أنحاء المعمورة، ولا تطلُّعَه إلى دول بلا جيوش ولا مخابرات، وعالم بلا أسلحة. لأنها ببساطة رومانسية حالمة.

ألم يبشرنا فرنسيس فوكوياما أيضا في “نهاية التاريخ” بانتهاء زمن الحروب بعد نهاية الحرب الباردة، ثم كانت أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من دمار لا يزال الشرق الأوسط يعاني تداعياته؟ فرغم التطور المذهل في وسائل الاتصال التي قرّبت الناس بعضهم من بعض، وجعلتهم يعرفون عن بعضهم بعضا ما كانوا يجهلون، لا تزال البشرية تبتدع لنفسها ذرائع لإخضاع الآخر، والسيطرة على خيراته، وسحقه ومحقه إن اقتضى الأمر، ولا يزال “الإنسان، كما قال هوبز، ذئبا لأخيه الإنسان”. وعبقرية الشعوب قد تكون كفيلة باجتراح سبل الدفاع عن نفسها، بلا جيوش، ربما، ولكن بوسائل أكثر فتكا وبطشا مما هي عليه الآن.. والطائرات بلا طيارين إحدى بشائر المستقبل الذي ينتظر البشرية.

ملاحظة منهجية

بقي أن نقول إننا نكبر في الأستاذ الجباعي شجاعته، فقد أعلن ما أعلن عن النظام وأزلامه وهو في دمشق، ونحيّي فيه تواضعه حين صرّح أن “الثورة ثورة عليّ وعلى أبناء جيلي، وليس من حقي وحق أمثالي أن يركبوا موجها، فنحن مسؤولون عما وصلت إليه بلادنا من فقر وحرمان واستبداد وطغيان، ولا سيما من كانوا مثلي منخرطين في أحزاب أيديولوجية معارضة أو موالية”.

ولكن وددنا لو كان الحوار معه مباشرا حتى يستوضح منه المحاوِرُ بعض ما سكت عنه، كما أشرنا أعلاه، أو يتجنب وضع سؤال عن إجابة حصلت، لأن طرح الأسئلة مكتوبة دفعة واحدة، يحدّ من انطلاقة المستجوَب فيرجئ البقية لسؤال لاحق بادٍ أمامه، وقد يجعل بعضها لاغيا، كما هي الحال في “السؤال 12″عن المثقف الميت. ووددنا أيضا لو تفضل المحاوِرُ بتقديم المفكر جادالكريم الجباعي، حتى يعرف القارئ العربي أن بيانه متأتٍّ من اشتغاله سابقا بتدريس اللغة العربية والمساهمة في تدقيقها وتطوير موسوعتها، وأن اهتمامه بالفكر السياسي وقضايا المجتمع المدني والدولة الوطنية وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، رافق عمله السياسي ضمن حزب العمال الثوري العربي حتى أواسط التسعينات، ومن نشاطه في لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا، وجمعية حقوق الإنسان، ومنتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي.
مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.