أيام العزلة

استعادة كتاب “رحلة حول غرفتي“ نص قديم بروح معاصرة
الأربعاء 2020/07/01

في ظل ظروف العزل/ الحجر الصحي الذي يعيشه في هذه الآونة أزيد من نصف سكان العالم بسبب تداعيات فايروس كورونا (كوفيد – 19)، أقبل عدد كبير من المثقفين على إعادة قراءة كتب غاية في الطرافة تتحدث عن رِحْلات ليست كباقي الرحلات؛ رحلات داخل حدود جدران الغرف المنزلية.

لا مراء في أن كتاب “رحلة حول غرفتي”   (Voyage autour de ma chambre) 1794 للكاتب/الضابط العسكري غزافيي دوميستر (Xavier de Maistre 1763 – 1852)، يُعد من أشهر ما كُتب في هذا الباب. فُرض على الكاتب الانعزال في غرفته لمدة اثنين وأربعين يوما لأسباب ترتبط بمخالفته للقوانين العسكرية ودخوله في مبارزات شخصية؛ فاستغل هذه المدة في تحبير صفحات كُتَيِّبِهِ ذاك، مقدما لنا في نفس الآن وصفا لعاداته وأذواقه وميولاته، وعرضا لأفكاره التي وصفت بالعميقة، حتى أنها تضاهي ما جادت به قريحة أكثر الفلاسفة تألقا.

 ولم يكتف صاحبنا بما كتب، بل إنه أتبعه بجزء ثان وسمه بعنوان مثير “الحملة الليلية حول غرفتي”  (L’Expédition nocturne autour de ma chambre). لم يكن دوميستر معزولا لِعَيْن سبب عزلتنا نحن في هذا الزمان، غير أن القاسم المشترك يكمن في أن الإنسان بإمكانه أن يتحمل قيود هذا الحجر إن نجح في إقناع نفسه أن راحته يمكن أن توجد في تحرير ذاته وتركها حرة طليقة تسافر الوجهة التي تريد. سفر روحي.. سفر داخلي.. سفر أدبي.. لا يهم، الأهم أن النفس تتحرر من الجدران (جدران المنزل، والغرفة، بل والجسد أيضا) لتُحلِّق باحثة عن الانعتاق والانطلاق.

ورغم أن الرِّحلة والكتابة حولها كانت فنا ذائع الصيت في مختلف بقاع العالم؛ لما تقدّمه للقارئ من متعة الانتقال عبر وساطة الكلمات والجمل إلى أماكن لم تطأها قدماه من قبل، فضلا عن أنها تعتبر بمثابة وثائق ناطقة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية… للشعوب بغض النظر عن المكان أو الزمان، إلا أنها لم تكن بالنسبة إلى عدد من الكُتَّاب هدفا في حد ذاتها، بقدر ما كانت فرصة من أجل إعادة كتابة الواقع أدبيا. فهذه جورج صاند (George Sand) الكاتبة الفرنسية الشهيرة تؤكد في “رسائل مُسافر” (Lettres d’un voyageur) أن “الكاتب يرنو في الحقيقة إلى السفر حول ذاته نفسها”. وهذا بليز سوندرار (Blaise Cendrars) يذهب بعيدا عندما يحاول أن يقنعنا أن السفر يقتضي إغلاق العينين. وعلى هذا الأساس، تغدو مغامرة الكتابة وتوصيف أحاسيس الكاتب أهم بكثير من كتابة المغامرة وتصوير الواقع والحكي عنهما.

لالالالا

لقد كانت هذه العزلة التي فرضتها السلطات العسكرية على دوميستر عقابا له بسلبه حريته الجسدية مؤقتا، فرصة بالنسبة إليه من أجل إعادة اكتشاف فكره وروحه خارج حدود الزمان والمكان.

انطلق دوميستر في رحلته داخل غرفته مستعملا نفس الجهاز المصطلحي والمفاهيمي للرَّحَّالة؛ فهو تارة يتجه شمالا وتارة جنوبا، وتارة يتوغل إلى جانب المكتبة الحائطية، وتارة على جنبات السرير.. بشكل جعل هذه الطريقة في السفر تقوم على مبدأين اثنين: الأول التخييل بوصفه منبعا خصبا لا ينضب من الصور، والثاني الذاكرة التي تنطبع فوقها ذكريات الماضي. وعلى هذا الأساس، أصبحت الرحلة تعتمد الخيال عوض الواقع، والغوص في الماضي عوض مناقشة إشكالات الحاضر. وبهذا، يكون لوميستر قد أسس لونا رِحْلِيًّا جديدا يَعْتَبِر أن الانغلاق والانعزال فرصة سانحة للانعتاق، أما التحرر الجسدي فهو السجن عينه؟

وحتى تتوضح الصورة أكثر نسوق فيما يلي بعض المقاطع من “رحلته”؛ وهي المرة الأولى التي يتم فيها نقل أجزاء من هذا النص إلى اللغة العربية:

في أسباب كتابة هذه الرحلة

“لقد انخرطتُ في رحلة لمدة اثنين وأربعين يوما حول غرفتي. وبالنظر إلى أهمية الملاحظات التي أبديتها، وإلى عظيم المتعة التي أحسست بها طيلة الطريق، فإني ارتأيت أن أتقاسم ما عشته مع العموم”. (الفصل الأول/ص1)

“يمتلئ قلبي برضى عارم عندما أفكر في كل أولئك البؤساء الذين أُقدِّم لهم معينا ضد الملل، ودواءً للألم الذي يكابدونه”. (نفسه/ص2).

وجهة الرحلة

لالالالا

“تقع غرفتي على خط العرض 45 درجة تبعا لحسابات “الأب بيكاريا”. وهي ذات توجه مُحاكٍ لمسار الشمس في رحلتها من الشروق إلى الغروب. غرفتي مستطيلة الشكل بمساحة تناهز الـ 36 قدما”. (الفصل الرابع/ص8).

مسار الرحلة

“عندما أسافر في غرفتي، فنادرا ما أتبع طريقا مستقيما، ذلك أنني قد أنطلق من طاولتي نحو لوحة فنية تشغل ركنا من أركان الغرفة، ومنها أتوجه في مسار مُنحنٍ ناحية الباب، غير أنني قد أتوقف لبرهة إذا صادفت أريكتي في طريقي؛ وهي بالمناسبة على قدر عظيم من الأهمية بالنسبة إلى شخص يمارس التأمُّل، بل إنها تغدو في ليالي الشتاء الطويلة دواء للملل رفقة كتاب وريشة وأوراق”. (الفصل الرابع/ص9).

“وإذا تركنا أريكتي وتوجهنا ناحية الشمال، نكتشف سريري المتموقع في عمق الغرفة. (الفصل الخامس/ص11).

“سريري مكان ملائم للتأمل تحت أشعة الشمس الدافئة المتسللة عبر فرجات الستارة”. (الفصل الرابع عشر/ص32).

“وحتى نتسلى في طريقنا الطويل والشاق ناحية مكتبي، لا بأس من وصف اللوحات التي تزين جدران غرفتي”. (الفصل العشرون/ص47).

“وأخيرا اقتربت كثيرا من مكتبي، حتى أنني كنت قادرا على لمس ركنه الأقرب إلى يدي” (الفصل الثامن والعشرون/ص68).

“لا يمكنني بأيّ حال من الأحوال أن أنهي كلامي إن شئت أن أحكي ما وقع لي من أحداث غريبة عندما اقتربت ـــ أثناء رحلتي ـــ من مكتبتي”. (الفصل الثامن والثلاثون/ص96).

بعضٌ من تأملات الكاتب وأفكاره

لالالا

“لقد توصّلت عبر ملاحظات عدة إلى أن الذات الإنسانية مقسّمة إلى روح وجسد. ورغم أن الطرفين متمايزان إلا أنهما متداخلان أحدهما في الآخر، أو إن صح التعبير أحدهما فوق الآخر؛ ذلك أن الروح يجب أن تحظى بالسلطة العليا”. (الفصل الرابع/ص ص14 – 15).

“جميل أن تكون لديك روح منفصلة عن المادة، إلى درجة بعثها بمفردها في رحلة”. (الفصل الثامن/ص20).

“سعيد من يجد صديقا يتوافق مع قلبه وروحه، صديق يشاركك في الأذواق والمشاعر والأفكار، صديق لا تحركه المطامع والمصالح الشخصية”. (الفصل العشرون/ ص48).

“تخضع الموسيقى للموضة الرائجة، بينما يتحرر الرسم من قيود الزمان والمكان [..]، فلوحات “رفاييل” ستُدهش أبناءنا مثلما أذهلت أسلافنا”. (الفصل الرابع والعشرون/ص58).

وغير ذلك من المقاطع التي تُبهر القارئ بقدرة صاحبها على إنتاج نص حول غرفته المعزول فيها، يُضاهي نصوص كبار الرَّحالة المشهورين. وليس هذا فحسب؛ بل إنه ضَمَّنه خلاصة تأملاته في الفلسفة، والاجتماع، والفن، والأدب.. والحياة عامة.

لا شك، إذن، أن هذه الرحلة تجد صدى عميقا لها في أيامنا هذه، لاسيما في ظل الانغلاق وراء الجدران، والملل الذي بدأ يغزو النفوس. وعلى العموم، تبقى القراءة ملاذا آمنا تُغني بِدُرَرِها عن مآسي الواقع المعيش.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.