الصورة النفسية في رواية "قصتي الحقيقية" للإسباني خوان خوسيه مياس

الأحد 2022/05/01

يمكن القول إن الصورة النفسية هي الصورة الذهنية الذاتية التي تتشكل عن الشيء تبعًا للحالة النفسية والشعورية والعاطفية للناظر، وهي أشبه برؤية الشيء من خلال عدسة محدبة أو مقعرة، أي أنها صورة غير حقيقية في معظم الأحيان، وهي صورة متغيرة، قد تبلغ حد التناقض أحيانًا، ويترتب على هذه الصورة النفسية تصرفات وسلوكيات ومواقف وربما قرارات، يجانبها الصواب في الغالب.

ومن الروايات التي برزت فيها الصورة النفسية بوضوح، رواية «قصتي الحقيقية» للإسباني خوان خوسيه مياس، هذه النوفيلا التي تتحدث عن طفل، يعيش مع أمه وأبيه. تسبب دون قصد بحادث، أدى إلى وفاة أم وأب وابنهما، ونجاة طفلة، ولكنها تعرضت لتشوهات جسدية. ولا يدري أحد أنه المتسبب، إلا أمه التي خمّنت ذلك، ويلاحق الطفل الفتاة حتى تتطور علاقتهما إلى لقاءات حميمية، وبعد أن يعرف أنها تعرف أنه المتسبب تنقطع العلاقة بينهما.

تستعرض هذه المقالة جانبًا من الصور النفسية التي تتعلق بالطفلة إيريني من خلال رؤية الطفل المتسبب بالحادث:

إيريني، هي الطفلة الناجية الوحيدة من أسرتها من الحادث الذي تسبب به الراوي الطفل، وكانت تقاربه في السن، وعمرهما آنذاك اثنا عشر عامًا. وعندما علم أنها خرجت من المستشفى، أرقه الأمر وأضناه، وكان يفكر فيها وحالتها في كل وقت ومكان، يتخيلها عمياء، وأنه أصبح أسيرها، يتعارفان ويتحابان ويتزوجان وينجبان، دون أن يعترف لها بأنه السبب في كل ما جرى لها ولأسرتها.

كتب

وذات يوم، رأتها أمه، فأخبرته أنها طفلة الحادث، وتظاهر بالجهل، ولاحظ أنها عرجاء وقبيحة، وهذا الاختلاف بين الصورة المتخيلة والصورة الواقعية سبب له اضطرابًا. ثم يفسر كيف أنها عرجاء وقبيحة «كانت عرجاء لأن إحدى ساقيها، اليسرى تحديدًا، كانت تتحرك متأخرة قليلًا عن اليمنى في رد الفعل، كأنها يجب أن تفكر مرتين. كانت عرجاء لأن هذه الساق كان نصيبها من الصلابة غير الطبيعية في السيقان العادية. كانت عرجاء لأنها كانت تجهد حتى لا تبدو عرجاء بطريقة الجبان حين يتظاهر بشجاعة حجر من الكاربون. كانت عرجاء لتناقضها، لمداراتها، لعدم اتساقها مع نفسها. وكانت قبيحة، ربما، أفكر ولا أعرف، لأن الجانب الأيمن من وجهها من الصدغ وحتى الفك العلوي كان مشقوقًا بجرح يذكرني بثغرة بين الباب وإطاره، ثغرة تعطي انطباعًا بأن وجهها قد يفتح على مدخل للجمجمة… كانت قبيحة أيضًا لأن شعر الحاجب في هذا الجانب من الوجه كان يتجمع في نقطة، كما يركز المغناطيس برادات الحديد في مكان ضيّق” (ص 27).

إنه وصف يمزج بين شكلها الحقيقي ورؤيته الشعورية لها، يصورها عرجاء قبيحة بشكل منفّر جدًا. وكان يتعمد متابعتها وملاحقتها عن بعد، حتى اصطدم بها ذات يوم، فسقطت، ولم يساعدها، بل ركض مبتعدًا كأنها مصابة بجذام، وكان يتلفت وراءه، ورآها تنهض كالبلهاء، ثم يقول «أتذكر أني توقفت عند ناصية ولهثت كأني قد ركضت في ماراثون داخلي، ماراثون المتعِب فيه ليس طول المسافة، وإنما كثافتها. كنت قد ركضت بداخلي، ربما ركضت بداخل الطفلة، حتى تعبتُ، وتمزقتُ، وتفككتُ” (ص 28).

هذه الصورة المرعبة للطفلة، بدأت تتغير مع الألفة وتعدد رؤيتها عن قرب «وكنت كلما آلفت وجودها، كانت تبدو لي أقل قبحًا، أقل عرجًا، بل وأقل حولًا (إذ كانت لها عين زجاجية)” (ص 29).

فالألفة والقرب منحا الطفل منظارًا جديدًا أقل قتامة، وأكثر إشراقًا. وذات يوم سقط منها ملف أوراق، فساعدها على لملمتها، فشكرته، وحدث التغيير الجذري في نظرته لها «لما شكرتني نظرت في عينيّ، وخلال أجزاء من ثانية هي مدة نظرتها الروتينية استحال كل قبح وجهها جمالًا بشكل غامض، مثل مذاق لم يكن يروق لك ثم بدأ فجأة يصيبك بالجنون. لاحظتُ أن جفن عينها اليسرى (التي كنت أظنها زجاجية) به نوع من القطع والتجعيد، وبحذف الإيحاء القبيح من العبارة، كان ذلك يجعل منها مثيرة. شعر حاجبها الناقص منح وجهها إيحاءً بالفرادة، أما الثغرة التي تمتد من تحت الحاجب وحتى الفك، فأعتقد أنها ساعدتني على اكتشاف أهمية الشيء المقطوع. لقد بلغ اضطرابي حدًا أني عند توديعها كانت أعضاء جسدي متفرقة كل واحد منها في جانب، كأنها بلا عقل قادر على تنظيم حركتها” (ص 30).

إنها الحالة الشعورية والعاطفية التي حوّلت العرج والقبح إلى جمال وإثارة وفرادة، والنفور إلى انجذاب أفقده توازنه وتماسكه. ومع مرور الأيام صارا يلتقيان بشكل متكرر، مع شعوره بمزيج مضطرب من الرعب والمتعة، وحافظ على سرية العلاقة معها بعيدًا عن أعين أمه. وفي بعض الأحيان، يتهم نفسه بالوحشية؛ لأنه يخرج مع فتاة فقدت بسببه أسرتها، فيتصبب عرقًا، وكان ذلك عرضًا سائدًا لأزمة خوفه.

في السادسة عشرة من عمريهما، أدمنا بعضهما بعضًا؛ يستغلان غيابات أمه عن البيت فليتقيان فيه، وذات لقاء حميم في البيت، عادت أمه قبل موعدها، فغضبت ممّا رأت واكتشفت، وأخبرت الفتاة عن حقيقته، ولكن الفتاة أخبرتها أنها تعرف ذلك، ففوجئت وابنها، ولما سألها عن ذلك بعد مغادرة أمه، أخبرته أنه قال لها ذلك بلسان حاله «كنت أقول لها ذلك دون أن أنتبه، كلما سألتها إن كانت قد غفرت لقاتل أبويها وأخيها، إن كانت قادرة على مقابلته، والحديث معه، إن كانت لا تحمل له أيّ ضغينة” (ص 64)… اكتشافه معرفة إيريني بالحقيقة أدى إلى نفوره منها، وعندما اصطحبها لتعود إلى بيتها، تغيرت صورتها في ذهنه، يقول «أتذكر أن إيريني دميمة وأن جزءًا من دمامتها سببه عاهة تشق وجهها وتقطع حاجبها” (ص 64)، ويوصلها إلى المحطة، ويعتذر عن مرافقتها إلى البيت بحجة التعب الشديد. وبعد ذلك يقول “أداري أني لم أعد أحبها، خاصة أني توقفت عن حبها حين تحققت أنها لا تزال تحبني بعد “كشف الأوراق”، أروح لأفسخ العلاقة بأكثر الذرائع البائسة التي استخدمها الرجال طوال حياتهم: أنا لا أستحقك، لن أستطيع النظر في وجهك وأنا أعرف ما أعرف وأنا أعرف أنك تعرفين ما أعرف” (ص 67).

الصورة النفسية

إن هذه التغيرات في الصورة، مردها إلى عوامل نفسية وعاطفية، والقرب والبعد، وعندما عرف أنها تعرف، تهشمت الصورة الجميلة المؤطرة بالغموض، وظهرت الصورة القبيحة المنفرة، فالصورة النفسية هي التي تحدد العلاقات ومستواها وقوة الروابط والصلات.

إن الصورة النفسية، لا علاقة لها بالمجاز والألعاب اللغوية، فهي صورة شعورية، تملك خصوصيتها وذاتيتها، وقابليتها للتغير، وتتطلب من الكاتب إبداعًا متميزًا، وقدرة على التوغل في دواخل الشخوص، ووصف رؤيتها الخاصة، وما يعتمل فيها نحو الأشياء والآخرين؛ قد نجد في الكثير من الروايات وصفًا رائعًا للمعاناة الشخصية وحالاتها الشعورية المختلفة، ولكن نادرًا ما نصادف صورًا نفسية للغير، إذ يقتصر الوصف للمظهر الخارجي والصفات والسلوكيات التي لا يختلف عليها أحد في الغالب

الكاتب      

خوان خوسيه مياس (1946 – )، روائي وقاصّ إسباني، وهو أحد كتاب جيل 68، ويشير هذا المسمى إلى أهم كتاب الأدب الأسباني المعاصر. نشرت أولى أعماله الروائية عام 1974 بعنوان «العقل هو الظلال»، ومن أعماله الروائية: “امرأتان في براغ”، “من الظل”، “المرأة المهووسة”، “العالم”، “هكذا كانت الوحدة”، “أحمق وميت وابن حرام وغير مرئي”، “لاورا وخوليو”، “هي تتخيل وهلاوس أخرى لبيسنته أولجادو”. ومن أعماله القصصية «الأشياء تنادينا”، “خمس قصص قصيرة”. نال عددًا من الجوائز، وترجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.