كهف أفلاطون

السيرة الذاتية والهجرة إلى استعارات بديلة
الجمعة 2022/07/01
لوحة: فؤاد حمدي

يسود رأى عام يقول إن السيرة الذاتية لا مكان لها في دول مثل دول الخليج العربية ذات طبيعة محافظة تنفر من الخوض في خصوصيات الناس، فما بالك بنشرها. بل إن الكثير من الباحثين والدارسين يؤكدون ويكررون أن السيرة الذاتية لا يمكن أن تزدهر في بيئة مثل بيئات الخليج أكسبت الصحراء أهلها صرامة تجاه كل ما من شأنه أن يعد تفريطًا في أعرافها وتقاليدها.

إن المجتمعات الخليجية والعربية عمومًا هي مجتمعات تحرص أشد الحرص على وحدة الجماعة، وتستميت في الدفاع عن أولوياتها، لا أولويات الفرد. على رأس هذه الأولويات تأتي الروابط والقيم العائلية التي يجب أن تظل أسرارها طيّ الكتمان، وأن تبقى دائمًا يقظة تجاه كل من يحاول أن يهدد تماسكها وتلاحم أفرادها. وهي أولويات لا تنسجم مع نوع مثل السيرة الذاتية يشجع على الفضفضة لا الكتمان، ويقوّي من شوكة الفرد في مقابل سطوة الجماعة. إن السيرة الذاتية، تفتح بابا يُستحسن غلقه في وجه ريح قد تعصف بعلاقات أسرية وقيم يقدرها كل مجتمع بطريقته الخاصة، ويزنها بموازين تختلف حساسيتها بين مجتمع وآخر. سواء بحديثها عن علاقات أسرية لا مناص من الحديث عنها، وأقارب قد يعد البعض التعرض لهم مسًا بكرامتهم وانتقاصًا من هيبتهم، فإن طيب الذكر وحسن السمعة غاية في مجتمعاتنا وأولوية تهون بالقياس إليها الحياة نفسها. وقد تُقَلب السيرة الذاتية في دفاتر تطوي بين صفحاتها ضغائن وجروح قديمة يرى البعض أن السكوت عنها فضيلة يجب ألا نفرط فيها، والنبش فيها إيقاظ لفتنة نائمة يجب ألا نتهاون مع من تحدثه نفسه بإيقاظها. ولنا أن نتخيل إلى أيّ حد يمكن أن يكون عمق الشعور بفداحة التعدي على مثل هذه القيم في مجتمع له خصوصيته الدينية مثل مجتمع المملكة العربية السعودية. فقد تلقت رواية رجاء الصانع ”بنات الرياض“، على سبيل المثال، الكثير من اللوم لأن أحداثها تجري على أرض، يجب أن يظل من غير المحتمل أن تجري عليها. أُضطر بعض الكُتاب السعوديين، على إثر هذ اللوم، أن يهاجروا بخيالهم خارج المملكة ليقتنصوا فضاء مكانيًا يحتمل أحداث رواياتهم، وأفعال أبطالهم. فإن كان هذا هو الحال مع الرواية المحسوبة على الخيال في نهاية المطاف، فكيف يمكن أن يكون الحال مع السيرة الذاتية التي تتباهى بصدقيتها، وتملأ الدنيا ضجيجًا حول صراحتها ووضوحها ووفاءها للماضي؟

كهف أفلاطون

كتب

من غير المعقول قبول الرأي السابق كله على علاته، مثلما لا يمكن القبول بنقيضه كله على علاته أيضًا. إن وضع المنحاز لهذا الرأي أو لذاك لهو أقرب إلى أن يكون أحد هؤلاء المقيدين بسلاسل في كهف أفلاطون بحيث يجد نفسه مضطرًا للنظر في اتجاه واحد لا يستطيع أن يحول بصره عنه. بمعنى أن السيرة الذاتية غير ملزمة بقبول شروط مستوردة حملتها معها من الغرب، أو شروط  مغرقة في المحلية تشل حركتها وتخنق فرص وجودها. فهي غير ملزمة، مثلاً، بقبول شرط الفردية الذي نما وترعرع في مجتمع آخر غير المجتمعات العربية. ولا هي ملزمة بقبول شرط الصدق التام الذي يلح البعض في المطالبة به. إذ بات من الواضح أن شرط الصدق التام شرط غير واقعي سواء بالمقاييس الأدبية واللغوية، أو بالمقاييس الاجتماعية. إن السيرة الذاتية ليست قضية منطقية تحتمل الصدق أو الكذب، وليست وثيقة تاريخية، وإن تضمنت حقائق تاريخية. إنها مزاج مما هو خيال وتاريخ. كما أنها ليست، بالضرورة، نميمة أو فضيحة مكتوبة وموثقة. إنما هي صورة شخصية معكوسة على مرآة المجتمع، فهي بنت هذا المجتمع وبنت ضروراته في لحظة ثقافية خاصة. وبالمثل فإن السيرة الذاتية ليست ملزمة، بقبول أولويات الجماعة على علاتها دون أن يكون من حق الفرد أن يعلن عن أولويات بديلة يرى أنها لا تضر، بالضرورة، بأولويات الجماعة. ما لم نقل إنها قد تكون إضافة للأولويات الاجتماعية. فإن سنة الحياة التغير والتطور. ولا شيء يبقى على حاله. ومن الطبيعي أن تتغير الأولويات بتغير المجتمع وبتغير ظروفه.

ومن العدل أيضًا أن يتغير فهمنا للسيرة الذاتية، وأن نقبل بتنازلات نظرية تقربها من الواقع الذي نشأت وسط تحدياته. ولو اقتضى الأمر منا أن نستبدل مفهوم السيرة الذاتية بمفاهيم أخرى أكثر واقعية وانسجامًا مع ثقافتنا. فمفهوم السيرة الذاتية، على كل حال، مفهوم مربوط بزمن التنوير الغربي بكل ما يستتبعه هذا المفهوم من أولويات قد لا تكون من ضمن أولوياتنا. بل لا بأس من أن نعيد النظر في مفهومنا لما هو سيرذاتي كلما كان ذلك مطلوبًا ومتوافقًا مع بدائل استعارية تتبناها النصوص في وقت ما من الأوقات. هذه التنازلات المتبادلة التي تتصالح فيها النظرية مع واقع النصوص، وتتصالح فيها النصوص مع متطلبات واقعها يمكن أن تحقق التوازن بين طرفي معادلة إنتاج وتلقي السيرة الذاتية في الخليج. وتحل، من ناحية أخرى، لغز وجودها وازدهارها في بيئة مثل بيئة الخليج العربي. سوف تتوقف السيرة الذاتية، بناء على ذلك، عن الأخذ بمقاييس عالمية تتجاهل خصوصية المجتمعات غير الغربية. لاسيما وأن الموجات الجديدة من نقد السيرة الذاتية في الغرب قد تخلت عن هذه القراءات التي تُسقط الفروق الثقافية من حساباتها منذ وقت طويل، وكشفت عن التحيزات التي تكمن ورائها.

دور هذا الكتاب

يسعى هذا الكتاب إلى إبراز عدم عدالة هذه الثنائيات الحدية واقتراح مَخرج نظري لمعضلة السيرة الذاتية في الخليج. ومن ناحية أخرى تقديم قراءة للبدائل الاستعارية التي هاجرت إليها النصوص. وقبل هذا وذاك بسط المشهد السيرذاتي في الخليج بواقعه ونصوصه ومنجزه النقدي أمام أعين القارئ العربي المتخصص وغير المتخصص الذي ربما لايزال يسلم بأفكار وأراء نمطية حول واقع السيرة الذاتية في الخليج. من أجل هذا القارئ تحديدًا أعددت، في نهاية هذا الكتاب، جدولاً يضم أهم الأعمال السيرذاتية التي صدرت في دول الخليج كافة، دون أن أدّعي أن هذا الجدول شامل لكل ما صدر بالضرورة، أو أدّعي الكمال فيما يقدمه من معلومات. ولكنه يقدم صيغة أقرب ما تكون للممكن وأقرب ما تكون للدقة. سوف يكون بإمكان القارئ، على الأقل، أن يعرف اللاعبين الأساسيين والفاعلين الأوائل في مجال كتابة السيرة الذاتية في الخليج، وسوف يكون بإمكانه أن يضع يده على المعلومات الضرورية التي يمكن أن تقوده في مجاهل هذه الكتابة إن هو أراد الخوض في مجاهلها.

وقد يكون هذا الجدول تعويضًا عن الدول التي لم نستوف قراءة نصوصها في هذا الكتاب لأسباب أو لأخرى. فسوف يقتصر هذا الكتاب على قراءة نصوص من الكويت والسعودية وسلطنة عمان، نظرًا إلى أنها الدول التي تراكمت فيها نصوص سيرذاتية، بحيث أصبحت ظاهرة يمكن قراءتها وتقييمها. ولكننا لن نجد خطابًا نقديًا للسيرة الذاتية يعتد به إلا في المملكة العربية السعودية. فهي البلد الوحيد الذي استطاع أن يراكم منجزًا نظريًا موضوعه الأساسي هو السيرة الذاتية دون بقية دول الخليج العربية. والسبب أن السعودية أولى دول الخليج التي بدأت كتابة السيرة الذاتية في فترة مبكرة من القرن العشرين، وأكثرها إنتاجًا لنصوص ذات مرجعية ذاتية. فقد بدأت السعودية مشوارها الإبداعي في كتابة السيرة الذاتية قبيل منتصف الخمسينات من القرن الماضي بصدور السيرة الذاتية لأحمد السباعي بعنوان ”أبو زامل“ 1954م. ثم تسارعت وتيرة الكتابة السيرذاتية في المملكة لأسباب متعددة يناقشها هذا الكتاب بالطبع. غير أن أهم ما يمكن قوله الآن إن الخطاب النقدي في أكبر بلد منتج للسيرة للذاتية لم يستطع أن يرى ويعرف لماذا تبدو نصوص السيرة الذاتية وكأنها ليست نصوصًا سيرذاتية. أو فلنقل إنه رأى ولم يسعه أن يتقبل ويتحاور مع ما رآه. إن نصوص السيرة الذاتية في المملكة العربية السعودية تسبق النقد بخطوة، إن لم يكن بخطوات. وبينما تمكنت السيرة الذاتية من التفاوض مع واقعها فخرجت من هذه المفاوضات ببدائل مكنتها من تمثيل نفسها، ظل النقد فوق مستوى هذه المفاوضات يعاير السيرة بمعايير مثالية لا مكان لها في الواقع الجديد. وبدلاً من أن يساعد النقد في فهم النصوص وتقريبها من المتلقين، أصبح هو نفسه طرفًا في المعادلة التي تُقصي النصوص وتقمعها. وبالتالي أصبح وضع السيرة الذاتية وضع المحاصر بين المجتمع الذي يرتاب فيها، والنقد الذي يبرر ويسوّغ هذا الارتياب.

لوحة: فؤاد حمدي
لوحة: فؤاد حمدي

جدير بالذكر أن سلطنة عُمان قد خطت أولى خطواتها النقدية في مجال السيرة الذاتية بصدور كتاب «الخطاب السردي العماني الأنواع والخصائص (1939- 2010)» لعزيزة الطائي. غير أن الحديث عن السيرة الذاتية ليس إلا جزءا يسيرًا من اهتمامات هذا الكتاب الذي امتد طموحه إلى قراءة المنتج السردي العُماني خلال سبعين عامًا مضت. ونظرًا إلى طبيعة الكتاب التي تميل إلى أن تكون سجلاً يتناول البدايات ويرصد تطوراتها فإنه، على أهميته، يبقى بداية لجهد يُنتظر أن يشكل سجالاً حقيقيًا مستقبلاً حول الكتابة ذات المرجعية الذاتية. وبخلاف ذلك لم نعثر إلا على كُتيّب صغير من تحرير عزيزة الطائي أيضًا يتضمن أعمال الندوة التي أقامها النادي الثقافي بعنوان «كتابات الذات في الأدب العُماني». وقد اقتصر الكتاب على عرض لملخصات الأوراق البحثية التي تضمنتها أعمال الندوة. وبالنظر إلى ما صدر حتى الآن في مجال السيرة الذاتية في سلطنة عُمان، فإن النقد يظل حتى الآن غير مواكب للإنتاج الأدبي الذي تسارعت وتيرته وتزايدت في العقدين الأخيرين.

ومع ذلك فإننا لن نتأخر في الإشارة سواء إلى نصوص سيرذاتية من دول أخرى بخلاف الدول الثلاث: الكويت والسعودية وسلطنة عمان كلما كان ذلك ممكنا. كما أننا لن نغفل الإشارة إلى أيّ جهد نقدي بخلاف الجهد النقدي للمملكة العربية السعودية كلما كان هناك موجب لهذه الإشارة.

 

* النص جزء من مقدمة كتاب حمل عنوان “كهف أفلاطون” صدر مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.