يوجد دائما من يحكي قصّتنا

الاثنين 2021/11/01
لوحة: سليمان منصور

حكت شهرزاد في الليلة الحادية بعد الألف أغرب حكاياتها، قصة شهريار بالذات، وبينما كان يصغي إليها، انتبه إلى ذلك، فصرخ “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”. وقد اختار الأديب عبدالفتاح كيليطو قول شهريار هذا من كتاب “ألف ليلة وليلة” في طبعة ماكسيميليانوس هابخط ليكون عنوانا لروايته الجديدة.

حتى لا ينتاب كيليطو ندم فكري متعلق بهذا العنوان، أورد على التوازي معه عبارة لكافكا من “المحاكمة”، يقول فيها “ما كان ينبغي أن أعيش على هذا النحو”؛ وذلك ليبقى كافكا قريبا من قراء كيليطو ولا يضطروا إلى البحث عنه بعيداً، وربما يحيلهم كيليطو هنا إلى كتابه “من نبحث عنه بعيداً، يقطن قربنا” المُعنون من يوميات كافكا والمُستهلّ بنصّ شهرزاد الأولى، مؤكداً مرّة أخرى ما تساءل عنه في كتابه ما قبل الأخير “في جو من الندم الفكري” فيما يخصّ تأثّر كلاسيكيتنا بالآخر واستمداد قيمة الأدب العربي من الأدب الأجنبي، إذ من الفصل الأخير في هذا الكتاب يبدأ كيليطو روايته “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”، حيث “يكفي تصوُّر كتابٍ لكي يُوجدَ”، كما أورد الكاتب نفسه في كتابه “أنبئوني بالرؤيا”.

عدوُّ القرّاء

كتب

أخفى كيليطو تقديمه لروايته الجديدة في الصفحة الخامسة والثلاثين، وفيها يقول “إنه هو الذي فتح كتابا، كتابا قديما، يعود إلى القرن الرابع الهجري، “مثالب الوزيرين”، من تأليف أبي حيان التوحيدي. لقد فتح حسن البصري بابا ممنوعا، أما حسن ميرو، فإنه فتح كتابا ما كان له أن يقرأه. هذا الكتاب سيكون، بلا شك، بطل هذه القصة”.

يدفع كيليطو قارئه مرة أخرى إلى البحث عن التوحيدي بعيداً عن روايته “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”، وإن كان قد قدّم له فيها تعريفا قريبا؛ بل خصّ لتقديمه فصلا يقول في جزء منه “عانى التوحيدي الكثير من عدم الاعتراف بعبقريته من لدن معاصريه؛ لكن التاريخ عوّضه بشكل كبير، فهو، في الوقت الحالي، يحظى بتقدير شامل. نوّهت العديد من الأبحاث باهتمامه المشترك بالأدب والفلسفة، وأشادت بإنسيّته، وبالتركيب الذي أفلح في إقامته بين التراث العربي والفكر اليوناني”. لكن ماذا عن الخيط الرابط بين التوحيدي وكتاب “ألف ليلة وليلة”؟ إن كيليطو يجد إمكانيةَ للذهاب أبعد، وادعاء أن التوحيدي كان مسكونا بروح “الليالي”، وأنه لم يبتعد عنها إلا للاقتراب منها. لقد كان يحبّ سرد القصص، وهي صفة تقرّبه من شهرزاد.

هناك سؤال يرد بذهن القارئ، متعلق بما يشبه محاولات كافكا والتوحيدي الانتحار تخلّصا من كتاباتهما وإخفاقهما في ذلك، على الرغم من توفقهما في كل ما يتعلق بالاقتراب الشديد والابتعاد الأقصى. توجد إجابات عديدة عن هذا السؤال في مجموعة من كتب عبدالفتاح كيليطو. لقد أحرق التوحيدي مخطوطاته في حياته، وأوصى كافكا بتدمير مؤلفاته بالنار بعد مماته. قرارات يجدها لا تخلو من التباس، ويجب أن توضع في منظورها الصحيح. يرى كيليطو أن التوحيدي لم يكن يحبّ نفسه، وأن الراجح هو أن لا أحد من الناس يحبه حقا، ربما لأنه أكبر هجّاء عرفه الأدب العربي؛ بل يمكن اعتباره أكثر سلاطة في لسانه من الحطيئة. متأسفاً على إتلاف التوحيدي لنسخه الشخصية ومسوداته، يتساءل كيليطو “أهي طريقته في الانتقام من القرّاء أم بالأحرى صرخة يأس ونداء استغاثة، ادّعاء صاخب وشكل من أشكال الابتزاز للإسراع بمعالجة الظلم الذي لحق به، والاعتراف أخيراً بقيمته؟”.

توغلا في قراءة رواية “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”، يتوضّح كنه انتقام التوحيدي من قُرّائه عبر كتابه الخطير “مثالب الوزيرين”، كتاب يدعو إلى القلق بسبب سمعته السيئة ومما يشيع حوله من نحس وانتكاسات وضرر يصيب كل من تجرأ على قراءته، انتقام التوحيدي سيسري على الدوام مستهدفا قراء الحاضر والمستقبل. ولن ينحصر التأثير السلبي لكتاب المثالب في معاصريه؛ بل سيشمل الذين سيقرؤونه جميعهم في الأزمنة اللاحقة.

عِقابُ المُنتهِك

تتعدّد الأبواب الممنوعة التي يُحظر فتحها في رواية “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”، وكلها ستُفتح في الأخير لأن المنع يوجَد لكي يُخرق. تجنّب حسن البصري العمل بنصيحة ابنة ملك الجن التي نصحته بألا يفتح بابا في القصر، لكنها سلمته مفاتيح الأبواب جميعها ممهّدة إقدامه على الأمر. لقد كان هناك سبب وجيه للنهي عن فتح الباب، سبب لم يدركه حسن إلاّ حين أصبح مخيّرا بين موته وبين خطفه لجنّية مكسوة بمعطف من ريش.

يسّرت أمّ حسن ميرو فرار زوجته نورا، بأن كشفَت لها مخبأ معطف الريش، هذا ليس مثبتا؛ لكن ما كان على حسن إخبار أمه بمكان المعطف وتوصيتها عدم تمكين زوجته الخروجَ من باب البيت. لقد تحصّلت نورا على المعطف وطارت من السطح، ربما ارتكب حسن خطأ فادحا شأن حسن البصري عندما لم يحرق الثوب تاركا للجنيّة إمكانية الفرار. لذلك، يواجه في نفسه بابا مغلقا ما كان عليه أن يفتحه.

صمّمت نورا على قراءة كتاب المثالب، كان كتابا يعني زوجها حسن الذي ورّطها في قضيته، باب آخر لم يكن من المفترض أن يُفتح، لقد حكم عليها بهلاك محتمل، “إن لعنة الكتاب من القوة، بحيث من الأرجح أنّ لا أحد يفلت منها” هذا ما يؤكده كيليطو في الحكاية.

نصحت هيلفي صديقها موريس بالاحتراس من فتاة عادتها الاستحمام عارية في البحيرة، مع ذلك قادته خطواته إلى مكانها، تجاهل تحذير الصديقة وتجرّأ على النظر إلى الفتاة العارية ذات العينين الزرقاوين فاستحوذت عليه وحجبت صورتها كلّ النساء اللواتي قابلهنّ.

نقلت نورما إلى زوجها موريس نبوءة العرافة، فحدّدت حكايتها مصيره، لقد دفع ثمن إصغائه باهظا. عندما همّت نورما بإفشاء سر الغجرية لحسن، حاول أن يقفل الباب؛ لكن الأحداث اللاحقة لا تؤكد نجاحه في ذلك.

عصفورٌ من الشرق

لوحة: عادل داؤد
لوحة: عادل داؤد

يروي حسن ميرو قصته؛ بدءا من تخيلاته مراهقا يحلم بزيارة باريس بعد قراءة توفيق الحكيم، في متحف اللوفر حصل لقاؤه الحاسم بنورا، كانت مستغرقة في الرسم، رسمت صورته وبصفة غير مباشرة رسمت صورتها. سنوات في ما بعد، كان حسن يمشي بلا هدف بشارع السين، فاستوقفته صورة المرأة المجنحة في واجهة إحدى قاعات العرض الفني، لمح نورا في الداخل، متوهجة كالنور.. أكانت للطالبة نور قصة أخرى مع الأستاذ ع. وتوفيق الحكيم؟ ربما، “لا يجوز الحديث عن كتاب إلا لمن يستطيع كتابته”؛ ذلك موضوع محاضرة الأستاذ ع. في رواية “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”، موردا في صفحاتها “كان خطابه بمثابة جولة بطيئة في الأدب ونزهة استطرادات واقتباسات… تمنّى من أصغوا إليه أن يزيد من شرح ما كان يعنيه، إلاّ أن إجاباته ظلّت غامضة…”.

أكان عبدالفتاح كيليطو يحدثنا في هذه الرواية عن الأستاذ ع. أم كان يحكي لنا قصّته هو بالذات؟

لقد أجابنا كيليطو على لسان كافكا “ما كان ينبغي أن أعيش على هذا النحو”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.